قراءة في كتاب "التنوير الإسلامي.. الصراع بين الدين والمنطق"

غلاف كتاب "التنوير الإسلامي: الصراع بين الدين والمنطق - (أرشيفية)
غلاف كتاب "التنوير الإسلامي: الصراع بين الدين والمنطق - (أرشيفية)
أرنولد هوتينغَر* - (موقع قنطرة) 2018 قصة التنوير الإسلامي المنسية لطالما اتُهم العالم الإسلامي في الخطابات الغربية بالفشل في تحقيق التحديث وتطوير مفاهيم معاصرة للإصلاح. لكن الكاتب والمراسل الصحفي، كريستوفر دي بيلايغو، يرفض هذه الرؤية وينتقد في كتابه، "التنوير الإسلامي: الصراع بين الدين والمنطق" هذه النظرة الدونية للعالم الإسلامي. ويبرهن على أن العالم الإسلامي -خاصة في الشرق الأوسط- قد عاش فعلاً مرحلة تنويرية. وفي ما يلي، يعرض الصحفي المتخصص، أرنولد هوتينغَر، مضامين هذا الكتاب. * * * يريد المؤرخ والصحفي البريطاني كريستوفر، دي بيلايغيو، من خلال كتابه "التنوير الإسلامي: الصراع الحديث بين الدين والعقل"، أن يؤكد أن العالم الإسلامي قد شهد حقبة من التنوير. ويعرض الكتاب باستمرار لسياسة "الحركات الإصلاحية" في مراكز الثقافة الإسلامية الثلاثة، في القاهرة، وإسطنبول وطهران، والتي وجدت نفسها مضطرة منذ بدايات القرن التاسع عشر إلى التعلم من الثقافات الأوروبية المجاورة حتى تستطيع الصمود أمام هؤلاء الجيران. "تعلموا من ثقافتنا ولم يصبحوا مثلنا" يأتي دي بيلايغو في كتابه برؤية جديدة. فحتى اليوم، ما يزال الذين يصفون ذلك "الإصلاح" هم فقط أولئك الذين يعتبرون أنفسهم مالكي وصُناع إنجازات التنوير. وهم يصفون كيف تعلمَت الثقافات الأخرى من الثقافة الغربية. ومن وجهة نظرهم، ظلت صيرورة التعلم هذه جديرة بالتقدير ولكنها لم تكتمل، لأن أهل الثقافات التي تعلمت منا، "لم يستطيعوا أن يصبحوا مثلنا، على الرغم من أنهم حاولوا التعلم منا بجد". وهنا يتم التأكيد دائما أنهم -أي تلامذتنا في الشرق- "يقتربون" منا، ولكنهم لم يحققوا الهدف كله، وسوف يظلون تلامذتنا ومقلدينا. التنوير من وجهة نظر المسلمين ينجح دي بيلايغو، الذي عمل مراسلا في الشرق الأوسط لصحيفة "الغارديان" ومجلة "إيكونومست" في وصف التطور الذي عرفه العالم الإسلامي من وجهة نظر أهله، وهو يوضح في البداية ما الذي كان يعنيه للعرب والأتراك والإيرانيين في القرن التاسع عشر الالتقاء بالثقافة الأجنبية. كما يؤكد كيف تم تكييف ثقافة هذا الأجنبي ونمط عيشه في المنطقة. تقول أطروحته الأساسية إن العالم الإسلامي قد عاش فعلا حقبة تنويرية. وبطبيعة الحال، تم تبني المثل الغربية، لكن الكاتب يسلط الضوء على كيفيات هذا التبني، وعلى إنجازات الشخصيات الشرق أوسطية كرواد تنوير لمجتمعاتهم وليس على أساس أن فعل تبني الثقافة الأجنبية لا يمكنه أن يكون كاملا بالضرورة، مقارنة بما يحدث في أوروبا. وكان قد تم، إلى حد الآن، النظر إلى التنويريين في الشرق الأوسط، مثل رفاعة الطهطاوي (1801-1873) والإيراني ميرزا صالح (1790-1840)، الذي زار بريطانيا ووصفها، والتركي إبراهيم سيناسي (1825-1871)، الذي لعب دورا حاسما في تبني التركية الحديثة كلغة للتداول وتأسيس أول صحيفة تركية، كمجرد وسائل لنقل الثقافة الغربية إلى الشرق. وقد حدث الشيء نفسه مع آخرين أيضاً. ويسلط الكتاب الجديد الضوء عليهم كمنافحين عن الثقافة الجديدة، والتي من شأنها أن تساعد على إعادة تشكيل ثقافاتهم القومية. ويؤكد صاحب الكتاب أن هؤلاء الإصلاحيين قد نجحوا بالفعل في تحقيق تحول كبير داخل المجتمعات الاسلامية التقليدية. وبدلا من الادعاء بأنهم "أصبحوا تقريبا مثلنا"، يجري الحديث عن "أنهم وجدوا قيما يريدون تطبيعها داخل مجتمعاتهم، وكان من شأن ذلك أن يخضعها إلى تغيير أساسي ومستمر". ملكة استشعار لا تضاهى ترى العين الأوروبية التي تنظر إلى الثقافات المجاورة هذه الاختلافات حتى يومنا هذا: "ثمة الكثير من هذا وذاك مختلف عما عندنا. على الرغم من كل الجهود التي بذلوها للتعلم منا". وتنظر العين الشخصية إلى تغير الزمن، وكيف تغيرت الثقافة الوطنية نتيجة لجهودنا بشكل كامل: "لا شيء ظل كما كان عليه الحال في الماضي"! لقد تمكن دي بيلايغيو -بفضل قدرة لا تضاهى على النفاد إلى عمق الثقافة الإسلامية- من أن ينظر إلى ذلك التحول بأعين أصحابه الذين بادروا إلى تنوير مجتمعاتهم التقليدية، بدلاً من أن يتم الحديث -كما كان الحال في كل العروض السابقة- مع الأوروبيين أو غيرهم، وبشكل إيجابي أو سلبي عن مسألة "التغريب". ردة الفعل بعد التنوير يقف جهد التنوير الإسلامي أمام مأزق. ويقوم المؤلف حتى بعرض هذا الوضع، وإنما بشكل أقل تفصيلاً مقارنة باهتمامه بالمرحلة التنويرية. تبدأ الأزمة مع الحرب العالمية الأولى التي أجهزت على الامبراطورية العثمانية، وما نتج عن ذلك من تقسيم للعالم العربي بين القوى الاستعمارية، أو ما يعرف اختصارا بـ"معاهدة سايس - بيكو"، ولكن أيضا قيام دولة تركية قومية وإيران قومية بقيادة بريطانيا ولاحقا الولايات المتحدة الأميركية. وظهر التناقض بين قيم الحرية التي ينافح عنها الغرب وسياساته التي تهدف إلى استعباد الحضارات المجاورة. فعمليات الإكراه التي رافقت التنوير -الذي يقوم على الأمر وعلى خدمة من يصدر الأوامر- تسمح للمحافظين من أعداء التنوير الذين لم يخلُ أي زمن منهم، بأن يسيطروا على الوضع وأن يُفقدوا التنوير مصداقيته. وبذلك تصل "الحقبة الليبرالية" إلى نهايتها. ما تزال تكنولوجيا السلاح خصوصاً ومصانعه، تعد ضرورية ومن دونها لا يتحقق شيء. لكن الجيران الغربيين توغلوا بشكل كبير يتجاوز كل مقاومة. وقد رأينا كيف أن العسكر استولوا على السيطرة على السلطة بعد تراجع القوى الاستعمارية عقب الحرب العالمية الثانية. لكن واقع أنهم وجدوا من الضروري إنشاء برلمانات -ولو صورية- يظهر أن العالم التقليدي قد تغير. وسوف يدعو الضغط المتواصل الذي يمارسه الأجانب إلى بذل المزيد من الجهود. وقد تغلبت المحاولة التنويرية الرامية إلى مواءمة المجتمع مع المعايير العقلانية على المشروع القومي. وكان الهدف من وراء ذلك تحقيق سلطة أكبر للمجتمع في ظل مفهوم الأمة القومية المستورد. ولهذا تطلب الأمر قيادة عسكرية. الإسلام المؤدلج يعوض القومية مع أفول نجم الأنظمة العسكرية بسبب انهيار الآمال التي علقت عليها وخسارتها في الحروب، ارتفع النداء للعودة إلى الأصول "الإسلامية". وكان أول من عبر عن ذلك حركة "الإخوان المسلمين" التي تأسست في العام 1928، وبعدها فعل جناحها الراديكالي الذي كان تحت تأثير سيد قطب، الذي أعدمه جمال عبد الناصر في العام 1966. ويصف المؤلف هذا التطور بالتفصيل، مبرزا الموتيفات والأسباب الكامنة خلفه. كما يسلط الضوء على النتائج المترتبة عن ذلك والمتمثلة في ظهور إسلام لا علاقة له بالفهم السابق للدين، وإنما يهدف بشكل أساسي إلى طرد الأجنبي، وهو أمر يتحقق بسرعة إذا ما عمد هذا الأجنبي إلى التدخل عسكريا في المنطقة كما حدث في أفغانستان والعراق. ولكن، حتى في البلدان التي لم تشهد غزوا عسكريا غربيا، من إيران وحتى المغرب، فإن هذه الرؤية الجديدة ستعرف انتشارا، وستجد في الإسلام حصناً ضد تسلل الأفكار الغربية ووسيلة لحشد القوى ضدها. وفي الوقت نفسه، نقف على أغلبيات مسلمة تأمل في العودة من جديد إلى الطريق الذي بدأته قبل مائتي عام ومواصلة السير فيه في اتجاه مستقبل أكثر تنويرا. *كاتب متخصص في شؤون الشرق الأوسط، عمل لعقود كمراسل لصحيفة "نويه تشوريشه تسايتونغ" في بيروت ومدريد وقبرص. وصدرت له كتب عديدة حول العام الإسلامي، منها "الدول الدينية وهرميات السلطة: الديمقراطية في العالم الإسلامي" (2000)، و"العالم الإسلامي: الشرق الأوسط: تجارب، لقاءات وتحليلات" (2004).اضافة اعلان