قراءة في نهج الثورة العربية الكبرى: نهضة إنسانية متجددة

صالح "محمد أمين" العمري

يتطلب النظر في مسارات الثورة العربية الكبرى وأحداثها، وكيفية الإفادة منها، قراءة هذه الثورة؛ بمعنى الفهم والاستيعاب وبناء المعرفة، وليس مجرد البحث أو الدراسة. ويفترض أيضا أن تكون هذه القراءة معاصرة، تجعل من الثورة العربية الكبرى معاصرة لنفسها؛ أي وصلها بالحاضر بعمق يتجاوز مجرد الاحتفال بذكراها في حزيران (يونيو) من كل عام.اضافة اعلان
إن المتتبع لفكر الثورة العربية الكبرى بتفحص وموضوعية، يتضح له جليا أن مبادئها ليست إلا منهجية متميزة ومتجددة، يجب اللجوء إليها للتخلص من الاستضعاف والاستعباد، وتأسيس قوة إنسانية متجددة تتصف بمواطنة حرة عادلة ومتساوية، تتميز عن عصرها، فتكون قادرة على ردع الفساد وتدمير الطغيان ووقف الإرهاب وإقامة العدل وتعزيز الحرية والوحدة الإنسانية بين المجتمعات.
من هذا المفهوم، ندرك أن الثورة العربية كانت أساسا لإقامة الدولة، ولم تكن فقط لحماية الإنسان الفرد كجسد بقدر ما كانت محاولة لحماية قيم وروح وإيمان هذا الإنسان، من خلال حماية ذاته وتاريخه كإنسان، وتوفير الأمن له من جانب؛ وتأسيس ارتباطه بالدولة والقانون لحماية مواطنته وتأمين حقوقه من جانب آخر. إذ كيف تتجسد قيم مثل العدل والمؤاخاة والحق والحرية وحرية العقيدة وممارسة العبادات الدينية بحرية وأمن واطمئنان، وكيف تتحقق قيمة المساواة بين الإنسان وأخيه الإنسان، من دون أن يتم ذلك كله من خلال مجتمع أو أمة تحكمها دولة؟
ولما كانت المرحلة التاريخية التي يجتازها الأردن والوطن العربي بعامة حافلة بالتحديات والأخطار التي تهدد مصير الأمة، وتنذر بالهيمنة على إرادتها وحريتها وإفقادها القدرة على مواكبة التقدم العلمي الحضاري ومنعها من استثمار مواردها لمصلحة أبنائها ومن مشاركتها الأمم الأخرى في بناء مستقبل أفضل للإنسانية كلها، ولما كان المواطن الأردني يتطلع إلى النهوض وإلى توفير أسباب القوة اللازمة للدفاع عن وطنه وضمان أمن المجتمع الذي ينتمي إليه ويتحلى بإحساس مرهف بالمسؤولية وإدراك عميق لأهمية مشاركته في صنع مستقبله ومستقبل أبنائه ضمن أطر ديمقراطية وقواعد مؤسسية راسخة مستقرة؛ فإنه تبرز هنا أهمية قراءة الثورة العربية الكبرى قراءة معاصرة، نظرا لحاجة الإنسانية اليوم إلى إعادة تأسيس مجتمع إنساني عالمي أخلاقي، تتشكل ملامحه في العصر الراهن من خلال امتلاكه مواصفات تؤهله لأن يكون مجتمعا نموذجيا يحافظ على كرامة الإنسان وأمنه ويعزز حرياته ويحترم حقوقه.
جاءت الثورة العربية الكبرى كمنهجية لإعادة تأسيس مجتمع إنساني جديد، قائم على منظومة من القيم الإنسانية التي تحترم كرامة الإنسان وتعظم عقله وفكره، وتحترم جهوده في بناء الحضارة الإنسانية وتطوير أدائه المؤسسي الإنساني المناهض لجذور الظلم والهادف إلى بناء مجتمع قائم على العدل.
وما نعيشه من نعمة الأمن والاستقرار في بلدنا الحبيب يجب أن يقابل من قِبَل المواطن بالشكر والامتنان لله عز وجل، ثم للقيادة الهاشمية الرشيدة التي سارت على نهج ومبادئ الثورة العربية الكبرى؛ فهو نهج نعتز ونفتخر به، لأن أساسه العدل ونشر قيم الحرية والعدالة والمساواة ونبذ التطرف والتعصب والعنف واحترام الإنسان لإنسانيته، بغض النظر عن دينه وأصله ومعتقداته. ولذلك، فإنه يجب على جيلنا الحاضر أن يعرف كيف أصبحت بلادنا واحة أمن واستقرار، وكيف يجب البناء على ذلك والحفاظ على هذه المكتسبات. فتحقيق الأمن الوطني إنما يكون بالشعور بالانتماء الصادق لهذا الوطن، من أجل رفعته واستقراره وأمنه، وهذا هو المفهوم الذي يجب غرسه في نفس كل مواطن على هذه الأرض.
هناك العديد من النقاشات المعاصرة والمستجدات في العالم تدعو إلى الاهتمام بحقوق الأمن التي قد تعد أفضل طريقة لمواجهة العنف والإرهاب حاليا، عن طريق وضع آليات لهذه الحقوق من خلال تأطيرها ومأسستها، لأن الأمن الإنساني وما ينبثق عنه من أمن سياسي واجتماعي واقتصادي ووطني، يتطلب التركيز على مبادئ العدالة والإنصاف والاستدامة والمشاركة المجتمعية، وتوسيع مفهومه ليشمل جميع الحقوق والحريات، وتوظيفه في جميع مجالات الحياة بشكل لا يقبل أي تمييز. وبالعودة إلى فكر الثورة العربية الكبرى، فقد تبنى هذا المفهوم وسبق هذه النقاشات، وكأنه (هذا الفكر) تنبأ بما ستكون عليه الأحوال في الحياة المعاصرة للأمة العربية والعالم بأجمعه في الحياة المعاصرة.
هذا يؤكد للقارئ حكمة القيادة الهاشمية عبر الزمن، في رؤيتها ورسالتها؛ هذه الرؤية الإنسانية المبنية على منظومة القيم الإنسانية الجامعة، بغض النظر عن أصل الإنسان ودينه ومعتقده ولغته.
فها هو جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، وريث مبادئ الثورة العربية الكبرى وقيمها، ومنذ تسلمه سلطاته الدستورية، لا يدخر جهداً في الدعوة إلى حوار عالمي أساسه التفاهم، بما يعزز مفاهيم التعايش وإحقاق العدالة ونشر السلام والمحبة بين شعوب الإنسانية جمعاء. ففي العام 2004، أطلق جلالته رسالة عمان التي حظيت بتأييد عالمي، وغايتها أن تعلن على الملأ حقيقة الإسلام، وتنقية ما علق به مما ليس فيه، وإجلاء الأعمال التي تمثله وتلك التي لا تمثله. وقد جاءت رسالة عمان حافلة بمفاهيم إنسانية عالمية تكرس الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وترسخ مبادئ الحق والعدل والوسطية والاعتدال، وتدعو إلى احترام العقائد والأديان والأخوة الإنسانية وتقبُّل الآخر ونبذ العنف والتطرف والمغالاة، معيدة بذلك للإسلام صورته السمحة المشرقة. ويُسجَّل للقيادة الهاشمية هذه الخطوة التاريخية في العصر الحديث، لتوضيح الصورة الحقيقية للإسلام، وتوجيه الشباب لنبذ العنف والتطرف والغلوّ. وفي مجال محاربة الإرهاب، فإن هناك دعوة إلى تعزيز ممارسة القيم الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية الإيجابية، ومحاربة السلبيات المنافية لهذه القيم، إضافة إلى دعوة لبناء ثقافة سلمية مُحِبَّة للعيش وحق الحياة لدى الشباب، ودعوة لغرس مفاهيم العقلانية والواقعية في التعامل مع الأشياء، وبناء ثقافة مجتمعية وأمن مجتمعي أخلاقي ينبذ أساليب الإثارة والاستفزاز والشتم والعنف والغلوّ والتطرف والإشاعة والإرهاب.
ولم تتوقف المبادرات الملكية في الدعوة إلى التعايش السلمي بين الشعوب ونشر القيم الإنسانية النبيلة، بل استمرت في ذلك. ولعل في خطاب جلالته في الجلسة العامة لاجتماعات الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة الذي اتسم بالوضوح والصراحة والشمولية، وضع جلالة الملك عبدالله الثاني المجتمع الدولي برمته أمام مسؤولياته الإنسانية والأخلاقية والقانونية، داعياً جلالته إلى ترجمة الأقوال إلى أفعال، وعدم إبداء أي تهاون أو تخاذل أو تأخير في العمل بدأب ومثابرة من أجل دحر الإرهاب وتجفيف منابعه، وعدم السماح للمتطرفين وخوارج العصر بخطف الأديان أو تحويل ما يجري من فظاعات وكراهية إلى حروب دينية لا يستفيد منها سوى هؤلاء الذين يسعَون إلى تحقيق أهدافهم الخبيثة للتوسع وبسط نفوذهم.
من هنا جاء طرح جلالته لمبادرته ذات البنود السبعة، ليؤكد في جملة ما أكد عليه جلالته دائما أن ما نشهده الآن هو حرب عالمية ثالثة؛ ما يستدعي أن تكون استجابتنا لها بحجم التحدي، الأمر الذي يتطلب عملاً دولياً وجهداً جماعياً على مختلف الجبهات، ولاسيّما أن جلالته ركّز بشكل لافت على ضرورة أن يكون العالم كلّه على يقين بأن الجبهة الأكثر أهمية في هذه الحرب تدور رحاها في عالم الفكر وميادينه، بما يوجب على المجتمع الدولي والإنساني أن يجدد ويحدّث خطابه، خاصة وأن عالمنا عرضة للتهديد عندما يسيطر العنف والخوف والغضب على خطابنا، سواءً في المدارس أم الخطب الدينية أم حتى في علاقاتنا الدولية. وأن يكون هناك برامج تحوّل الأقوال إلى أفعال، على أن تبنى على ضرورة احترام الآخرين، وأن تعزز مبادئ الوسطية والاعتدال، وتكشف الزيف والخداع على حقيقته.
في ضوء ما سبق، وبعد هذه المحاولة في قراءة الثورة العربية الكبرى قراءة معاصرة وربطها بحياتنا الحالية، نخلص إلى أن النظر في نهج الثورة العربية الكبرى وفكرها على أنه منهجية قابلة للتطبيق، سيمكن الإنسانية في عالم اليوم من التخلص من مشكلات وصعوبات تطبق بسوءاتها وسيئاتها على الدول الغنية والفقيرة. كما سيعزز ذلك القدرة لبناء مجتمع إنساني عالمي يؤمّن مناخا صحيا لمواطنة عالمية حرة وعادلة. وهذا يتحقق من خلال دعوة الحكومات والمنظمات العالمية إلى تنمية واستثمار رأس مال بشري إنساني، كخبراء ومتخصصين وباحثين متميزين في مجالات العمل المعرفي والمعلوماتي الديني والتطبيقي والفلسفي والتقني والاجتماعي والتربوي، لصياغة القيم والسياسات العامة باتجاه تعظيم الله وحسن الجوار وفعل الخير للناس، وتوسيع الحريات الإنسانية، وحماية الكرامة الإنسانية المتمثلة في العقل والدين والعرض والنفس والمال.