قراءة متأخرة في مكالمة أخيرة



في زحمة الأنباء التي تدفقت بغزارة شديدة عن مصرع العقيد معمر القذافي، مر الخبر المتعلق بوجود مكالمة تلقاها العقيد الصريع على هاتفه المحمول، وكانت الأخيرة، مصدرها كان من سورية، من دون أن يثير هذا الخبر ما يستحقه من اهتمام وإمعان نظر من جانب المعنيين بمجريات الأحداث السورية المتلاحقة، والتي دخلت منذ ذلك الوقت في طور انعطافي جديد، يفتح على أطوار أخرى أكثر أهمية.اضافة اعلان
وليس في وسعنا أن نعرف في المدى الزمني القصير فحوى تلك المكالمة، المسجلة بالضرورة لدى شركة الاتصالات المقدمة لخدمة الهواتف الفضائية، غير أنه في مقدورنا منذ الآن، التنبؤ أن المتحدث مع القذافي في ساعات محنته الأخيرة كان الرئيس السوري بشار الأسد على الأرجح، وليس غيره من طاقم المساعدين في قصر الرئاسة أو وزارة الخارجية، أو أيا من كبار الشبيحة.
وكم من الشيّق أن يتخيل أحد المبدعين في كتابة السيناريوهات ذلك المقطع الحواري من حياة حاكمين عربيين في لحظة فارقة، أحدهما لقي مصيره المحتوم بعد ساعات من تلك المكالمة، والآخر مايزال ينتظر ذات المصير وما بدل تبديلاً، لعل ذلك يضيء على الجانب المعتم من عوالم الشخصيات المستبدة، ويحكي بالتحليل النفسي أسباب عماء البصر الذي يقود إلى الهاوية السحيقة.
ومع ذلك، فإن التحليل السياسي يستطيع أن يقدم قراءة تعويضية، تقوم مؤقتاً مقام التحليل السيكولوجي لحالة المتحدثين الاثنين في تلك المكالمة التي بات تسجيلها في حوزة وكالة الاستخبارات الأميركية على الأرجح، لاسيما ونحن نشهد اليوم، ما لم نشهده في الأشهر السبعة الماضية، من حالة شد عصبي متزايدة، وشواهد أكثر من ذي قبل على حالة التخبط التي أخذت تستبد بالمتحدث على الهاتف من الجانب السوري.
فقد كان تقديرنا الأولي أن مشهد النهاية الدرامية المذلة للعقيد القذافي، مشهد سوف يظل يرافق الدكتور بشار الأسد إلى حين، ينام معه ويصحو، يأكل من صحن عشائه ويشرب من قارورة مياهه المعدنية، يؤرقه حتى ساعة متأخرة من الليل، ويثير لديه مشاعر الجزع من مصير مماثل، حتى وإن بدا طبيب العيون متماسكاً من الخارج، محافظاً على نبرة حديثه المعتادة مع المحيطين به.
وما كان مجرد ضرب من ضروب التخمين حول انفعالات آخر المتحدثين مع القذافي، بات اليوم أقرب ما يكون إلى نص تم تفريغه بأمانة من سجل تلك المكالمة، التي قد يتم الإفراج عن فحواها في وقت لاحق، حيث يمكن للمرء أن يقرأ في تصريحات الأسد المنشورة خلال الأيام القليلة الماضية، الكثير مما جرى تناوله بتوتر شديد، بين رجلين منقطعين عن الواقع.
ولعل ما قاله الأسد في أول لقاءات له خلال الأزمة الحالية، مع صحيفتين بريطانيتين، من أنه سيحرق المنطقة كلها، وأنه لا يقاتل سوى الإرهابيين، وفوق ذلك أنه لا يعرف شيئاً اسمه المعارضة، يعيد إلى الأذهان ما كان يقوله العقيد القذافي غداة الانتفاضة الشعبية على حكمه التسلطي الجائر، حول حربه ضد الإرهابيين و"القاعدة"، وتهديداته بإغراق أوروبا بالمهاجرين الأفارقة، فضلاً عن نقل المعركة إلى دول الغرب كله.
وإذا كان لنا أن نُعمل العقل أكثر في تهديدات الرئيس السوري للغرب وللعرب معاً، وأن نحكم على ارتدادات توعداته بزلزلة الشرق الأوسط سلفاً، فإنه يمكن القول إن مصرع القذافي قد نال عميقاً من ثقة الأسد بمستقبل ملكه الموروث عن أبيه، وأن السابقة الليبية المروعة راحت تقض مضاجعه أكثر فأكثر، وأنه كلما حمل حجراً أكبر بدا في نظر المستهدفين بحجره هذا فتى غراً، لا يعرف أن الحجر في مطرحه يزن قنطاراً وأكثر.
وإذا كان مشهد النهاية المهينة للقذافي ليس له هذا القدر من الأثر البالغ على تصرفات الأسد التي باتت مغالية على نحو أشد في الاتكاء على سيف القوة، ولا على أقواله التي تنم عن عصبية مميتة لصاحبها، فإنه يمكن إحالة مسؤولية خروجه عن طوره هكذا دفعة واحدة إلى مستشاريه الذين شطبوا أوروبا عن الخريطة، وهددوا باستبدال الدولار بالروبل، وقال أحدهم ذات مرة إن المتظاهرين في حي الميدان الدمشقي خرجوا يشكرون المولى على نعمة سقوط المطر!