قرن ازدهار الأديان أم اضمحلالها؟

كان القرن العشرون، على الأغلب، عصر اضمحلال دور الأديان في جهات عديدة من العالم. فإلى جانب السيطرة التي حققتها الأيديولوجيات المادية، وعلى رأسها الماركسية، على نحو ثلت سكان العالم، فإن لا أحد يستطيع إنكار حجم الازدهار الذي حققه الغرب في ترسيخ مبادئ العلمانية والإعلاء من قيم العلم في الحياة العامة خلال القرن الماضي، علاوة على الأفكار والفلسفات التي جاءت في سياق تداعيات الحروب الكبرى، وما انطوت عليه من تحييد للأديان. فماذا عن القرن الجديد الحالي؟ هل سيشهد بالفعل المزيد من الاضمحلال لدور الأديان، أم أن ما يحدث على الأرض يثبت أنه قرن ازدهار الأديان وعودتها إلى واجهة التاريخ؟اضافة اعلان
من المنظور الاتصالي والثقافي، تُربط التحولات الاجتماعية الكبرى في تاريخ البشرية بتاريخ الأدوات والوسائل، ما جعل مدرسة واسعة الصيت في الفكر تقول إن الموجة الخامسة من عصر الأدوات والوسائل؛ أي عصر الرقمنة وما ينتجه من تكنولوجيا ومن عولمة، سيشهد اضمحلال الأديان. بل إن بعض الأصوات في تسعينيات القرن الماضي كانت تتحدث عن نهاية الأديان، وأن قوة العولمة الثقافية وقوة الاتصال ستجعلان الحديث عن الأديان بعد قرن شبيهاً بحديثنا اليوم عن السحر والشعوذة والخرافات في القرن السادس عشر، زمن ما يسمى "ثورة كوبرنيكوس"، حينما قاومت الكنيسة فكرة ذلك العالم الإيطالي الذي قال إن الشمس وليس الأرض هي مركز الكواكب. كم هي فكرة تقليدية وبدهية بالنسبة لنا اليوم، وكم كانت صادمة وغريبة على ذلك العصر!
لكن ما يحدث على الأرض يثبت أن الكثير من وعود العولمة وعالم الرقمنة لم تتحقق، لا بل تحقق عكسها تماما. فمثلما تراجعت فكرة التنميط الثقافي في أحادية الثقافة، ازدهرت الأديان أيضا، لا بل وظهرت موجات كبرى من التطرف، كما يحدث لدى المسلمين، واستخدمت أدوات ووسائل العولمة والرقمنة في تحقيق نتائج مناقضة تماما للتوقعات.
ربما نستمع لصوت أكثر عقلانية؛ بأن السؤال ليس عن اضمحلال الأديان أو ازدهارها، بل عن قدرة المجتمعات على وضع الدين في سياقه ومكانته الطبيعيين، في مسار تطورها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. ما يجعل هذا القرن أقرب إلى الوصف بأنه ليس قرن الصراع الديني، ولا قرن الصراع على الأديان، بل قرن الصراع بواسطة الأديان.
في علم النفس الاجتماعي، جائز أن تمرض الجماعات؛ ليس بأمراض جسدية أو أوبئة سارية، بل بمرض أو جائحة ثقافية أو نفسية. وعادة ما يكون الفهم والتفسير السطحيان للأديان البيئة الجاذبة هنا؛ إذ يتحول الفشل وتردي نوعية الحياة، وعدم القدرة على الوصول إلى التطلعات إلى حالة قابلة لجذب الكثير من أشكال التطرف الذي تختلط فيه العواطف المنفلتة مع الخرافة والعنف وقوة الحدس والخوف من الغيب والتركيز على المظاهر الخارجية. وأسوأ ما تكون هذه الحالة المرضية حين تجد بيئة فكرية قادرة على إضفاء الشرعية عليها، وخلق ملاذ نفسي آمن لها، وأن تعدها بمصير غيبي آخر.
كلمة السر في الإسلام أنه قادر على تجاوز الكثير من الأثمان التي دفعتها الأديان الأخرى، بجملة بسيطة تتمثل في فصل المجال العام عن المجال الخاص، وصون الدين في المجال الخاص للأفراد. وعلينا تصور حجم الزمن الذي سيختصر إذا ما علمنا أننا اليوم انتقلنا إلى مرحلة الصراع داخل الدين التي مرت بها أديان أخرى منذ زمن طويل.