قصة الأموات والأحياء

كان ابن خلدون يردد قبل سبعة قرون: "اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء، بل أن الأحياء أموات". ونتذكر هذه المقولة البالغة التأثير ونحن نراجع ردود الفعل الشعبية والرسمية على قرارات الإدارة الأميركية الجديدة بمنع نحو 200 مليون عربي ومسلم من دخول الولايات المتحدة، وقرارات أخرى متوقعة بعضها سينال وضع القدس ونقل السفارة الأميركية إليها، والدفع بالمزيد من المستوطنات في الضفة الغربية، ما يشكل مقدمة لحسم الصراع وتصفية القضية الفلسطينية، مقابل نمو متسارع  للنزعة الشعبوية التي تتصاعد في الغرب والشرق على حد سواء، وهمها الأول التقوقع على الذات وحماية المصالح القومية.اضافة اعلان
وحدها المنطقة العربية غائبة عن التحولات التي يشهدها العالم. وهذا الغياب لا يشبه إلا الموت؛ ليس السياسي وحسب، بل هو الموت الحضاري بكل معانيه التاريخية. إذ علينا أن نلاحظ ونراجع عشرات المؤشرات التي استقرت خلال عقد مضى، أبرزها كيف أصبحت المنطقة العربية واحدة من أقل أقاليم العالم مساهمة في الناتج العالمي مقارنة بعدد السكان والمساحة؛ وهو الإقليم الذي توجد فيه دول ومجتمعات تعد الأسوأ في العالم وفق مؤشرات التنمية الإنسانية، والأسوأ في نوعية الحياة، والأسوأ في النزاهة والأكثر حفاوة بالفساد. وفي المجمل، ما يزال الإقليم العربي هو "الثقب الأسود" الأكبر في العالم في تقييد الحريات وانتشار الاستبداد السياسي. وأيضا في هذا الجزء من العالم، أسوأ الأماكن لحياة النساء والأطفال. ولا تفوتنا الإشارة إلى أن أكبر كتلة من الشباب في العالم تعاني الأمرّين من الفقر والبطالة وغياب الأفق والأمل؛ تحيا وتموت في هذا الجزء من العالم.
أمام التيار النقدي العربي مهمة عاجلة وتاريخية، تكمن في الحل الثقافي. وتقتضي الالتفات إلى حقيقة أن العرب ما يزالون يقفون على مسافة بعيدة من مفهوم الحداثة في المجتمعات قبل المؤسسات والدول، وأنهم ينتظرون الثورة الموعودة منذ ستة قرون وربما أكثر. وهذا يعني ضرورة تكريس موقف ومنهج نقديين من كل تلك الأشكال المسبقة الجاهزة، وإثبات أنها ليست بدهية ولا مطلقة. ويعني وقف الثرثرة الصامتة حول المقابر،  ودحض الخيال الخرافي حول الذات والآخر أياً كان، والعثور على كلام نافع في الكلام الأبكم الهامس. إذ إن التاريـخ يُفهم ويفتح ويغلق بالأسئلة التي يثيرها، وليس بالأجوبة التي يقدمها. فقراءة التراث ليست لاستعادة الماضي، بل للبحث عن أدوات النقد فيه وتعظيم قيم الحداثة وجذورها؛ أي أن البحث عن جذر للحداثة يقلل من استناد حداثتك على أزمنة الآخرين، من أجل البحث عن شرعية في عالم تعصف به الرأسمالية الجديدة والقديمة، وتحاول أن توحده عنوة تحت مظلتها. الجذر الحداثي والمنهجية النقدية يعنيان التخلص من الحمولات الزائدة، وإراحة الموتى بإعلان موتهم الأبدي.
أقسى ما حدث للعرب المعاصرين أن حركتهم الكبرى قبل نحو ست سنوات قادتهم إلى المزيد من الردة واليمينية السلبية والموت. لذا لم يصدمنا كل هذا الصمت وهذا البرود التاريخي في الردود التي قدمتها هذه المجتمعات؛ سواء على الذبح الذي حل بها باسم الأديان والمعتقدات، أو على ما يفعله ترامب وغيره بها؟