قصيدةٌ سريعة عند رأس الميت

العرب عموماً مفتونون بالرمزية، بالصور المطبوعة على "البوسترات"، بفكرة لف القتيل بالعلم الوطني، بكتابة الشعر الساذج في امتداح رئيس البلدية و… وضع الوطن كبند أول ورئيس دائماً في كل جاهة عرس أو صيوان عزاء!اضافة اعلان
لكن العرب، أيضاً، ميّالون للنسيان، يغادرون أحزانهم بسرعة.. ويواصلون السير في حقل الألغام المسمّى وطناً!
يدفنون ميّتهم، ويلقون قصيدة سريعة على المقبرة، ويعودون وهم يتندّرون على الميت في الطريق.
وبعض أحزاننا صار سريالياً، وعصيّاً على التصديق، لأننا سرعان ما "نتكيَّف" معه، بمازوشيةٍ فريدة.
هكذا في كل تاريخ العرب، نبدأ بحلم عظيم وشاهق، وسرعان ما تتضاءل أحلامنا، حتى نَقنع آخر الأمر بأن نجاتنا الشخصية كانت فوزاً عظيماً!
لم يعد لدى الجيل الجديد ذلك الترف الذي كان لنا ولآبائنا المسمّى "حلماً قومياً"، تلك المتعة في أن تحلم على الأقلّ..
الآن صار الحلم، وغاية المطلب هي الحفاظ على "الرواية التاريخية" متماسكة القوام.
أن لا يقع منها سطرٌ فيختلّ توازن المؤرّخ، أو تصير أمجادنا مدعاة للضحك.
صار الأمر أمراً واقعاً: قليل أو كثيرٌ من الشهداء، شعر مقاومة، جنود بذيئون يُمثلون احتلالاً بذيئاً..
لم يعد أحد يسهر ليتابع ما يحدث؛ ما يحدث صار عادياً، خبر عادي يمرّ والعائلة تتناول عشاءها، فلا تَعلَق اللقمة في حَلق أحد!
بلد محتل ينضافُ الى قائمة الأوطان السليبة.
فقد الأمر دهشته، حتى دهشته السوداء.
واستطاع العالم الحر أخذ توقيعنا على اتفاق ضمني: لنا كامل الحرية أن ننكّل بالبلد، ولكم كامل الحرية في رثائه!
والبلاد عموما تصير أجمل بعد اغتصابها.
هذا يُسجَّل لقوات الاحتلال، جعلتنا نرى السماء أكثر زرقة، الشوارع أكثر فتنة، حتى السهوب الصفراء التي كنا نتوقف في السفر الطويل لنبول عليها، صارت رؤيتها على التلفزيون تدفعنا للنشيج!
الأوطان مثل النساء، نشتهيها أكثر إن فقدناها، ونشتمها ما دامت مقيمة بيننا!
لم يعد الفقدان طازجا، أو أن الجرح أصيب بالتعود، وخلعنا ملابس الحداد، كأنما لا رادّ لقضاء أميركا!
هكذا، ببساطة، ببساطة شديدة، تتناقص الأوطان، وتتكاثر على الجدران صور الآباء الراحلين، ويصبح البلد شأنا عاطفياً محضاً، أو اقتراحاً للتلاميذ: من يكتب عنه أحسن موضوع لدرس الإنشاء؟
والتلاميذ عادة صغار؛ ويعتقدون أن أميركا طبيعة الأشياء، وأن البحر مصنوع من أجل البوارج!
..
تدريجيا، يصير الاحتلال أمرا بديهيا، ويعبأ الذهن بفكرة أن التحرير هو وظيفة تنتظر كل جيل عربي يولد، مَهَمَّة نرثها كما نرث الاسم الرابع في شهادة الولادة.
في العالم العربي يعيش الناس أعمارهم يحلمون بالاستقلال.. كأنما النساء مُسَخّرات لإنجاب المحاربين لا الأطفال.
هكذا.. هكذا بالضبط أصيبت الأوطان بالرمزية، وأصيب الناس بتسمم في الدم اسمه: أميركا!