قطاع الصناعة والأمن الاقتصادي

لا يستحق قطاع في العالم للدعم كما الصناعة. وهي مقولة طبقها العالم المتقدم قبل النامي، وإن كانت تقوم أساساً على أنَّ ذلك القطاع هو الداعم الأساس للأمن الغذائي للدول، فمن كان يرغب في أن يأكل ممّا يزرع فعليه أن يوفِّر روابط أمامية لقطاعه الزراعي تكفل بشكل أساس إمكانية استدامة الأمن الغذائي للدول خارج مواسم المنتجات الزراعية. اضافة اعلان
والمعروف عالمياً أنَّ الدول بدأت تنميتها بثورة زراعية قوامها الأساس ما وفَّرته الآلة، أي الصناعة، من دعائم أدت إلى إمكانية الاحتفاظ بالمواد الزراعية على أشكال غذائية مختلفة تكفُل الاستهلاك على مدى العام، وما تم توفيره من وسائل نقل داخل الدولة للوصول إلى أمن غذائي شامل، وخارج الدولة، لضمان تبادل الفوائض الزراعية والغذائية المصنّعة بين الدول، ناهيك عن ما وفرته الصناعة من دعم في مجال البنية التحتية للدولة، في مجالات إقامة الطرق، ووسائل النقل والاتصال، إضافة إلى ما توفِّره من إمكانات تتعلق بشتى وسائل الأمن الغذائي، والسَّكَنِي، والعسكري، أو ما يمكن تسميته الأمن المَعِيشي بمفهومه الشامل.
ويضاف إلى ذلك كله أنَّ استحقاق قطاع الصناعة للدعم، تجاوز مفهوم الأمن الغذائي، ليصبح أحد أهم مقومات الأمن الاقتصادي للدول. فقطاع الصناعة يشكِّل، بمفهومه الشامل، وروابطه الأمامية والخلفية مع القطاع الأخرى، المُشَغِّل الأكبر للعمالة الوطنية في معظم دول العالم، والأردن ليس استثناء من ذلك. وهو على صعيد آخر، أحد أهم المصادر المُستدامة للعملات الأجنبية، أي الاستقرار النقدي، عبر ما يوفّره من فوائض أجنبية من خلال عمليات التصدير. ويضاف إلى ذلك، أنَّ قطاع الصناعة يُعدُّ من أهمِّ مقومات التنمية المتوازنة، ذلك أنه يسعى لإقامة مُنشآته ومصانعه والمرافق المرتبطة بها على امتداد الجغرافيا وحيثما توافرت الموارد الاقتصادية الطبيعية في الدولة.
قطاع الصناعة ضمن هذه المنظومة يحصل على باقة مميزة من الدعم في دول العالم المتقدم، تبدأ بتوفير الطاقة بأقل الأسعار، ويتم تشجيعه ودعمه لاستخدام وسائل الطاقة الأرخص أو الأوفر له، ثمَّ إن رؤساء الحكومات في أوروبا يخوضون حروباً سياسية أحياناً لضمان حماية أسواق القطاع في الخارج، وضمان إستمرار فتح الأسواق أمامه، وضمان حصوله على متطلباته من الطاقة ومن المواد الأولية، بما يكفل استمرارية عمله. بل يقال إنَّ محور القضية التي تخوضها اليابان اليوم مع الرئيس التنفيذي السابق لنيسان ورينو، كارلوس غصن، هي حماية لقطاع صناعة السيارات في اليابان من السيطرة الأجنبية، أكثر منها قضية تهرُّب ضريبي.
الشاهد ممّا سبق، أنَّ قطاع الصناعة قطاع محوري في منظومة عمل أي اقتصاد في العالم، وأنَّ ما نراه بين فترة وأخرى من إغلاق أو تهديد بالإغلاق لبعض المصانع في الأردن ليس في صالح الاقتصاد الوطني، ولعلَّ ما رشح من أخبار حول إغلاق أحد أهم المصانع في المدينة الصناعية في الكرك شيء مؤرق في ظل تكرار ذلك الأمر في أكثر من موقع منذ سنوات، كان آخرها إغلاق مصانع كولجيت في الأردن، ما يعني وقف مورد دخل ومعيشة لنحو 120 أسرة في الأردن. بالأمس القريب، كان جلالة الملك في زيارة إلى محافظة مادبا، ووجه بسرعة الانتهاء من إقامة المدينة الصناعية في المحافظة، وقبل ذلك، وفي بداية عهده، افتتح جلالته مدينة الأمير حسين بن عبدالله الثاني في الكرك، المدينة التي احتضنت المصنع المزمع إغلاقه لقرابة 20 عاما. إذاً الرؤية الملكية واضحة حينما يأتي الأمر إلى الصناعة وتشجيعها وتحفيز الاستثمار فيها. بقي أن يتجدد الشعور بأهميتها لدى الجهات المعنية في الحكومة.
إغلاق المصانع يعني بالدرجة الأولى تهديد الأمن الاقتصادي للدولة، ويعني بشكل أهم إغلاق منازل أسر تعيش على مورد دخل وحيد من العمل في تلك المصانع، وتعثر أعمال، أو حتى إغلاق العديد من المؤسَّسات الكبيرة والصغيرة التي كانت تعيش على العلاقة مع تلك المصانع، أي إغلاق سبل العيش للعديد من الأسر. الصناعة بحاجة إلى مقاربة وسياسة اقتصادية جديدة، علينا في الأردن أن نعيد النظر كلياً في طريقة تعاملنا مع قطاع الصناعة، وقد أقول مع كافة القطاعات الاقتصادية، إنه من الواضح أنَّ هناك ما يتطلب عمله لوقف النزيف في قطاع الصناعة الأردني.
الاقتصاد الأردني اقتصاد يُحَلِّق بجناحين: القطاع الخاص والقطاع العام، فإنْ تأثَّر أو مرض أو تعطَّل أحدهما فلا يمكنه أن يحلق بشكل سليم، ولا أن يقلع من أرضه أو من المكانة التي هو عليها. دعونا نلجأ إلى سياسية اقتصادية حقيقية تعيد اقتصادنا إلى مساره السليم، سياسة يصيغها الشركاء من القطاعين، ويحقِّقها ويصيغها خبراء متخصصون، هناك تطبيقات مُثلى في العالم، وفي المنطقة من حولنا، وحرام أن نركن إلى ما نحن فيه، أو أن نقبل بتشرّد المزيد من الأسر جراء الإغلاق أو التعثر في أي قطاع.