قلق مسيحي مشروع

غابت الديمقراطية، وتراجعت ثقافة الحوار الجامعة، وحضرت ثقافة الخصومة والمغالبة؛ لتنصب حلبة يتصارع فيها المسلمون في بلاد العرب بين سُنّة وشيعة، في احتراب داخلي وعابر للحدود. في عراق البعث، استأثر العرب السُنّة بالحكم على حساب شيعة العرب وسُنّة الاكراد. وفي عراق (الحاكم الأميركي) بول بريمر، يمارس العرب الشيعة استئثاراً بالسلطة على حساب السُنّة من العرب والأكراد. وبين ظلم لحق بالعرب السُنّة، وظلم لحق بالعرب الشيعة، ظُلم الأكراد مرتين؛ لسنّيتهم من قبل العرب الشيعة مرة، ولكرديتهم من قبل سنة العرب وشيعتهم مرة ثانية.اضافة اعلان
في البحرين، يثور الشيعة للمطالبة بديمقراطية تحفظ لهم حقهم في المشاركة في الحكم، بينما السلطة تحاكمهم على النوايا خشية من أهداف طائفية تختبئ خلف المطالب الديمقراطية. وفي سورية، فإن للدكتاتورية فجورا طاغيا، أفرز حكماً طائفياً بامتياز، يعاند ثورة الشعب السلمية بالقتل، لدفع المواطنين إلى حمل السلاح، وفتح الباب لكل الأصولية السُنّية المتطرفة كي تدخل على خط الثورة، فتعقد مهمتها وتطيح بطموحاتها نحو التوافق والوحدة في المستقبل المنظور.
إذا كان المسلمون يتذكرون خصوماتهم قبل 1400 سنة، ويسفكون دماءهم على أعتابها، فماذا عساهم فاعلون بمن هم على غير دينهم؟ هذا ما يحق لغير المسلمين من العرب، وغالبيتهم العظمى من المسيحيين، أن يقلقوا منه بعد صعود تيار الإسلام السياسي إلى الحكم في أكثر من قطر عربي. واجترار مشتقات التطمين لم تعد تجدي نفعاً في إقناع المسيحيين، وطوائف أخرى، بالاطمئنان إلى المستقبل. ألم يسع نظام السودان إلى أن يحكم أبناء جنوبه بالشريعة الإسلامية، وهم ليسوا عرباً ولا مسلمين؟
المسيحية انبثقت من أرض العرب. وثقافة أتباعها تمثل جزءاً أصيلاً من الثقافة العربية الإسلامية. وكان انتماؤها يسبقها في كل مواقفها، منذ أن رحب أعلامها في الجزيرة العربية برسول الإسلام، صلى الله عليه وسلم، وأجار نجاشي الحبشة المسيحي أصحاب الرسول وحماهم، إلى أن انتصرت في الحروب الصليبية لعروبتها، وحتى قاوم أبناؤها الاستعمار الغربي في القرن الماضي دفاعاً عن حرية واستقلال أوطانهم العربية.
على القوى الصاعدة من مخاضات الربيع العربي وقادم مستقرها، أن تتذكر أن المسيحية سباقة في بقائها، كما كانت سباقة في وجودها، وأن أبناءها باقون هنا كما ولدوا هنا، ولا حاجة بهم لأحد يمنحهم اعترافاً أو يمنّ عليهم بحق؛ فهم في أوطانهم العربية من أصل الأشياء، ومن مستوجبات وجودها. وفي المواطنة، لا تضيرهم نسبية عددهم في مواطنتهم شيئاً. لا تقدم التجربة القُطرية العربية الراهنة احتراماً لجميع مواطنيها بعامة. وتمارس تعدٍيا على حرياتهم الشخصية والسياسية بدرجة أو بأخرى. لكن من يدينون بغير الإسلام، أو يمثلون طائفة إسلامية بعينها، وكذلك من ينتمون لقوميات غير عربية، يتعرضون لضغوط سياسية واجتماعية أكبر. ولا ينبغي أن نتفاجأ من شروخ في الوحدة الوطنية، ومطالبات استقلالية من قبل الفئات التي تتعرض للتمييز، وتشعر بدرجة أقل من المواطنة. الدولة الديمقراطية العلمانية المدنية هي حاضنة المواطنة ووحدة الأوطان. فلا حل للقُطريات العربية، إن هي أرادت أن تحافظ على وجودها وعلى وحدتها الوطنية، إلا بنظام ديمقراطي يكفل للجميع حرياتهم الشخصية والسياسية، ويمكنهم من مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات. فهو الحل الذي يجنبها مخاطر الإشكاليات التي تتصل بمعايير المواطنة وثوابت الوحدة الوطنية، ويقيها شرور التفتت والانقسام.

[email protected]