قمة بوتين بايدن والعودة لدبلوماسية الأقطاب بعيدا عن الشعبوية

خلال رحلته الخارجية الأولى، اتجه بايدن بشكل متوقع إلى حلفاء الولايات الأميركية التقليديين في أوروبا وحلف شمال الأطلسي، بعد أن اطمئن نسبياً على مجموعة ليست قليلة من الملفات الداخلية العالقة منذ سنوات طوال فترة حكم سلفه.اضافة اعلان
بايدن، لم يتجنب مواجهة ملفات خارجية شائكة في رحلته الأولى، ربما أقلها المفاوضات مع تركيا، وما أشيع من الحديث خلف الأبواب حول وضع تركيا في حلف شمال الأطلسي وحديث صريح مع الرئيس التركي على هامش أعمال قمة حلف شمال الأطلسي التي انعقدت ببروكسل. حيث أوضح كل منها مبادئ التعامل من جانبه. الملف بالتأكيد لم يحسم بعد، لكن وعلى ما يبدو فإن بايدن لا يتعجل حسم هذه الملفات مع تركيا الى حين، وهو سيمر عليها بتريث ربما بعد نقاشها مع حلفائه في الشرق الأوسط عندما يلتقي مع جلالة الملك عبدالله الثاني في أواخر حزيران، بالإضافة إلى مناقشتها مع الحكومة الجديدة في إسرائيل ما أن ترسي خطوطها العريضة وتباشر عملها.
أما الملف الأكثر أهمية ربما في إطار تحركات بايدن، كان لقاؤه الذي اتصف بمواجهة ذات طراز براجماتي مع نظيره الروسي في جنيف. والتي ربما جرت لأول مرة منذ زمن على مستوى قمة الأقطاب الكلاسيكية، حيث طرح الرجلان على الطاولة خطوطا حمراء، فيما تلاقت وجهتا نظرهما بعض الشيء فيما يتعلق بتحديد قواعد الاشتباك، وربما تهدئة مرحلية للتصعيد. فيما كان المُخْرَج الإيجابي الأبرز، الاتفاق على العودة إلى طاولة مفاوضات الحد من التسلح، وإعادة السفراء بعد فترة من القطيعة وربما الحديث مستقبلاً عن عدد من مواضيع الخلاف مثل الأمن السيبراني.
الرئيس الروسي كان يعلم جيداً بأن بايدن قد يشبه أي رئيس أميركي أسبق فيما عدا سلفه، والذي في عهد إدارته حقق بوتين ما لم تحققه روسيا من مكاسب على حساب الولايات المتحدة ربما منذ انفراط عقد دول الاتحاد السوفيتي. لكن هذا لن يستمر طويلاً على ما يبدو، فقد رسم بايدن خطوطه الحمراء بصورة واضحة وهو -بعكس سلفه- سياسي مخضرم جاء إلى المكتب البيضاوي يحمل على عاتقه هدف واضح، وهو إعادة هيبة الولايات المتحدة وتحلفاتها واستعادة نفوذها في عديد الملفات، بالإضافة الى تحركاتها الدبلوماسية التي أهدرها سلفه بعنجهيته التي بنيت بشكل واضح على عدم إلمام بقدرات الولايات المتحدة، ولا الكيفية التي جرت العادة على إدارة ملفاتها الشائكة، مغلفة بطمع شعبوي لإنجازات قصيرة النظر.
وإن حقق بايدن في قمتهما الأولى عدة مكاسب، تراوحت من وضع النقاط على الحروف، الى تصحيح الكثير من المعلومات الخاطئة عنه لنظيره الروسي التي ربما تناقلتها وسائل الإعلام لأشهر قبيل وصوله إلى سدة الحكم. إلا أن الملفات الأكثر تعقيداً ما تزال بعيدة عن التوصل حتى الى نقاط تلاق تكفي لإطلاق مفاوضات. ومعظم هذه الملفات قد لا تكفي فترته الرئاسية التي - قد تكون وحيدة - للوصول إلى تفاهمات حولها.
مخرجات اللقاء الأول لا تعني بأي حال من الأحوال بأن مناكفات على خط المواجهات الطويلة بين الطرفين لن تقع بمقبل الأيام، وبوتين معتاد على استكشاف حدوده بطريقة جس النبض لمعرفة أبعد الحدود التي يمكن أن تصلها مكاسبه ونفوذه. فيما يعلم الرئيس الأميركي جيداً المنطلق الذي تعمل من خلاله الإدارة الروسية، ولديه خبرة موسعة -على عكس سلفه- بقدرات الولايات المتحدة الأميركية ومدى نفوذها في مناطق بإمكانها أن تقض مضجع الرئيس الروسي، وذلك من أوكرانيا إلى شرق المتوسط وعلى طول خط الغاز الروسي إلى الغرب.
في النهاية، فالرئيس بايدن جاء إلى المكتب البيضاوي على متن قارب خبرته الطويلة التي تمتد ربما إلى آواخر حقبة الحرب الباردة ما قبل سقوط الستار الحديدي. معتمداً على حصيلة كبيرة من الحكمة، والتنظيم والتريث باتخاذ الخطوات -وخصوصاً الحاسمة منها- في الطريق نزولاً بسلم أولويات الذي اختطته بعناية مرجعياته السياسية.
وإن وصلت الرسالة ربما منذ فترة إلى الرئيس الروسي بأن الأمور الآن قد تغيرت، إلا أنه وفي نفس الوقت، فإن بايدن يعلم أيضاً بأن الملف الروسي ببراجماتيته المعتادة ليس أكبر تحد يواجهه على الصعيد الخارجي. وبأن ملفات مثل ملف الصين والمناخ والملف النووي الإيراني ومستقبل الناتو، بالإضافة الى النار تحت الرماد في الشرق الأوسط، هي ملفات بالإضافة إلى أنها أكثر تعقيداً فهي أيضاً لن تمهله كثيراً من الوقت الذي يعول عليه عادةً للخروج بقرارات أكثر حكمة، حيث إن معظم هذه الملفات ربما أضحى بالفعل على شفير الانفجار بأي لحظة.