قواعد العشق الأربعون

ماسة الدلقموني

أكتب هذا المقال وبودي أن أقدم باقة من الزهور لكل قارئ منكم؛ بودي أن أراكم تستنشقونها بهدوء وتتمعنون بها بتأمل؛ بودي أن أراكم تملؤون المزهرية بالماء بترو، وتنسّقون الباقة زهرة زهرة في تلك المزهرية بابتسامة زهية.اضافة اعلان
بهذه الحالة تركتني الكاتبة "أليف شفق"، بعد أن أخذتني معها إلى الزمن الغابر، وعادت بي فجأة إلى الزمن الحاضر، بعد أن أخذت خيالي إلى أجمل الأماكن، وعصفت بمشاعري فلم يبق منها ساكن.
ليست يدي هي التي تخط الحبر على هذا الورق، بل هي روحي اليقظة. ليس هو عقلي الذي يسرد هذه الكلمات، بل هو قلبي النابض. إن رأيتموني الآن، ستظنون أنني في حالة هيام؛ حالة لا توصف باللسان! أشعر بطاقة ظاهرة لكل العيان، طاقة تنتشر كالنسمة الرقيقة في البستان؛ فرحت، غضبت، ذهلت، تفاجأت، بكيت، نقمت، تحمست، تأملت، ألهمت، انتعشت، انزعجت، توترت، تشوقت، صادقت الشخصيات في القصة، واتصلت مع كل منهم على انفراد. بدأت بقراءة الكلمات والسطور، وانتهيت بقراءة المشاعر واستحضار الشخصيات كأنها أصبحت جزءاً من نهاري. سليمان، شمس الدين التبريزي، وردة الصحراء، رأس الواوي... قد تبدو لكم فقط أسماء، إلى أن تبدأوا بقراءة هذه الرواية التي بعبقرية كاتبتها تتسلل الحياة من كلماتها لكل اسم لتحييه.
أجلس هنا في المقهى، وفجأة يمر شاب أمامي متجها إلى الطاولة التي أجلس عليها مشيراً إلى الكتاب، قائلاً: أرجو أن تعذريني لتطفلي، هل انتهيت من قراءة هذه القصة؟ فأجبت مبتسمة: نعم! فسألني: ما رأيك فيها؟ أشرت إلى الأوراق المتناثرة أمامي قائلة: ها أنا أكتب مقالاً عنها، والحقيقة أني أظن أنها من أروع الكتب التي قرأت حتى الآن؛ قصة تنبض بالحياة، فيها الكثير من الحب والعشق الإلهي الذي ينتقل إلى قلب كل قارئ بسلاسة وبساطة. فوقف هناك مبتسماً. فسألته: ما رأيك أنت بالقصة؟ قال: عشقت الرومي مع أني لم أره. فقلت: وأنا بهرني شمس الدين، فجرأته تعصف كالرياح العاتية! فأكمل جملتي قائلاً: يأخذك إلى حيث لا تتخيلين، ويفاجئك بتساؤلاته المباغته! ضحكنا للحظات متحاورين عن الأحداث التي دارت في هذه القصة لعدة دقائق، ثم شكرني على وقتي وأكمل طريقه.
بقيت هناك أجلس إلى الطاولة السوداء، وأفكر: لماذا شمس الدين؟ كنت في كل مرة أعود إلى الكتاب بعد العمل أشعر بأني أريد أن أذهب لأرى أين وصل شمس الدين، صاحب الشخصية الفذة المتسائلة الواثقة المنطلقة، التي أنارت كالضوء في عقلي؛ كأنه يحمل مصباحاً في وسط العتمة، يسير من أقصى زاوية فيه إلى أقصى الزاوية المقابلة، تاركاً أثراً له في كل مكان؛ تاركاً تساؤلات في عقلي لتكون منبع النهر المتجه إلى قلبي، سامحاً لهذه الأسئلة أن تبقى هناك من دون إجابات لتسليني وتؤنس أفكاري خلال النهار، حتى أعود متلهفة لمعرفة المزيد كلما سنحت لي الفرصة.
وما إن أمسك الرواية، حتى أجد عينيّ تتسابقان على سطور الكتاب، متابعة حياة كل شخصية فيها، إلى أن أصل إلى اسم شمس الدين. إذ فجأة، تبطئ عيناي، كأنهما تريدان أن توقفا الزمن. وجدت روحي ترقى وعقلي يثرى برفقة شخصية هذا الدرويش الذي يجوب الأرض بحثاً عن الله في خلقه، هذه الشخصية التي لا تدعي الكمال، لكنها تجوب الأرض بحثاً عنه؛ الكمال الإلهي الموجود في كل ما تقع عيوننا عليه في الكائنات وفي الطبيعة وفي العالم الروحاني الخفي. هنا تتجسد قدرة الله، فكل نفس ما هي إلا جزء من الروح الإلهية، تأتي منها وتعود إليها، فمن يريد البحث عن الله حقاً لا يجب أن يبحث في السماء بل هنا على الأرض.
لم أسر فقط معه، بل دخلت عقله ورأيت من خلال عينيه ونظرته الثاقبة ما لم أر من قبل. وجدت نفسي بعيدة أكثر البعد عن إطلاق الأحكام، وما أعظم العيش هكذا -ولو كان لساعات وأيام فقط من خلال صفحات الكتاب- من دون حكم! وما أرقى التفكير المتجرد من الأحكام، طليقا كالصقر في السماء!  فها هو شمس يسير في الأرض من دون أي تقاعس أو تخاذل أو كسل، فاتحاً ذراعيه لكل ما سيلقاه، من دون أي خوف، مؤمناً أنه لن يلقى غير الله. فما أجمل هذا النوع من التسليم، وما أقربه إلى التوكل الحقيقي الذي يأمرنا الله به، وما أبعده عن التواكل الذي ينهانا عنه.
في رحلة التوكل هذه، يلقى شمس الدين جلال الدين الرومي، ولا أعرف ماذا أقول هنا! هل كان من حظ شمس لقاءه من يكمل روحه؟ أم من حظ الرومي أن يلقى من يجرده من صوته، ويسمح لصمته الغوص في أعماق الحقيقة؟
لم يدرك الرومي شقاء رحلته النفسية التي سيمر بها، رغم شعوره بالرهبة عند لقائه شمس الدين التبريزي، مدركاً أنه وجد رفيق روحه. ولم أدرك أنا قوة الرومي الروحية وشغفه الحقيقي في عشق الله، إلا بعد أن انتهيت من قراءة رحلة الشقاء التي تجرد فيها من كل ما يعرفه؛ الرحلة التي استفزت كل المريدين من حوله، وأشعلت النيران في قلوب من يتطلع إليه، والشكوك في فكر أقرب الناس إليه. يا لقوة هذه الشخصية! تدرك أن رحلة البحث عن الحقيقة فيها من التشهير ما قد يدمر، وفيها من الجمال ما قدر يعمر.
عرف الرومي أنه يقف أمام مرحلة جديدة في الطريق إلى معرفة الله. وللدخول في هذا الطور الجديد، يجب على المرء أن يتخلى عن الكثير، حتى يصل إلى النفس الراضية. فلا بد له أن يسير الآن في وادي الوحدة، ويتجرد من الأمور الدنيوية والأحكام المجتمعية، ويفعل ما لم يفعله قط في أيامه الماضية. وهنا سأترك لكم حق الاستمتاع بتفاصيل رحلة الرومي، عند قراءة الكتاب لمن يحب. واسمحوا لي أن أشارككم إحدى خواطري التي تتماشى إلى حد ما مع محتوى هذا الطور الذي مر فيه الرومي: "الشكليات تقتل كل المشاعر، توجه الوعي لكل ما هو زائل، تجعل حضور الفرح أهم من مشاركة أهل الفرح أفراحهم، وحضور العزاء أوجب من مشاركة أهل العزاء أحزانهم، تقتل كل ابتسامة من القلب نابعة وكل تعليق حقيقي من الفكر صادر".
عندما شاركت صديقة لي بقراءة الجزء الأول من هذا المقال، اقترحَت أن لا أنسى تخصيص جزء منه للحديث عن القواعد. لكنني بعد التفكير قليلاً، قررت أن لا أفعل ذلك؛ فليس من حقي أن ألخص كل هذا الحب في قواعد مرقمة، ليس من حقي أن أسلب منكم الاستمتاع برحلة الوصول إلى كل قاعدة من القواعد من خلال تسلسلكم في أحداث هذه الرواية، ليس من حقي أن أضيع جهداً روائياً استثنائياً لكاتبة، بسطور مرقمة. فكل تلك القواعد لا تعني شيئاً إن ذكرت مجردة من محتوى الكلمات والأحداث التي تقودنا إليها.
سأترككم هنا، وأنا أردد القاعدة الأربعين، بشعور رائع يغمرني: "لا قيمة للحياة من دون عشق".
مع حبي.