قوة إسرائيل

سارت الأحداث في قضية الفساد التي يواجهها رئيس الوزراء الإسرائيلي بمسارها المتوقع بعد ان أكملت الشرطة الإسرائيلية بياناتها حول تهم من المحتمل ان تتحول الى تهم قضائية تتعلق بأموال تلقاها اولمرت من رجل أعمال تعود للسنوات 1993، 2003، 2006، بينما سيمضي الرجل الى مصيره بتنفيذ وعده بالاستقالة خلال الأيام القليلة الماضية، مؤكدا مصادر قوة الدولة العبرية الحقيقية، الماثلة اليوم بقوة المؤسسات وبالقدرة على المساءلة والشفافية واحترام الرأي العام؛ أي رفض التعايش مع الفساد.

اضافة اعلان

وبعكس ما روجته وسائل الإعلام العربية ومنظروها، وما رددته من مقولات دعائية بثتها وسائل إعلام إسرائيلية وأخرى موالية إليها في الغرب وتلقفها الإعلام العربي. فإسرائيل تخرج من هذه الأزمة قوية وسلوك اولمرت يثبت للأسف قوة هذا الكيان، وليس ضعفه؛ فشر البلية الذي يبكي ويضحك معا ما رددناه عن مصير العملية السلمية ومسارها المتعثر بوجود قيادات ضعيفة لدى الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني عاجزة عن اتخاذ قرارات مصيرية؛ وهو تبرير سخيف لانتصار سياسة شراء التاريخ، وليس الوقت وحسب وفرض الأمر الواقع، والأكثر بؤسا تلك المقارنة بين نظام سياسي متماسك تقوده المؤسسات التي تملك القدرة على التصحيح الذاتي، والصيانة الوقائية في السياسة وفي معمار الدولة وكياناتها، كما يمارسه الاسرائيلون، وبين نخب سياسية متهالكة في الطرف الآخر أنهكها الفساد والتآمر والاقتتال.

الفساد هو مقبرة الدول، لكن الفرق الجوهري بين دول ومجتمعات تملك من القدرات والإرادة على مواجهته ما جعل تلك المؤسسات والمجتمعات تشبه آلة تعمل من تلقاء نفسها في رفض التعايش مع الفساد، وفي القدرة على كشفه ولجمه عبر آليات واضحة وشفافة في المحاسبة والمساءلة بما وفر تقاليد للتصحيح الذاتي. وهنا يكمن احد أهم مصادر قوة الدولة الثابتة والمتينة، التي لم تتغير عبر حقب طويلة من التاريخ، وبين دول ومجتمعات يُسرق القوت من أفواه أبنائها ويمارس فيها النهب المنظم والموت المنظم وتخرج نخبها للتبرير وقلب منطق الاتهام والوقائع وكأننا أمام حلبة للسحرة والمشعوذين.

سر قوة إسرائيل الحقيقي ليس لغز مفاعلاتها النووية ولا جيوشها ولا سلاحها الجوي، فقوة اسرئيل الحقيقية ليست الدعم الخارجي ولا التحالف مع القوة الكبرى في كل زمان، القوة الحقيقية وجود مؤسسات قوية قادرة على التصحيح الذاتي داخل أنسجة الدولة، قادرة على المساءلة في الصغيرة والكبيرة، مؤسسات تحترم الرأي العام، ولا تسترخي أو تنبطح أمام أي إغراءات ذات مساس بحقوق مواطنيها ومستقبل كيانها، القوة الحقيقية في رفض التعايش مع الفساد على كل مستوياته وفي كافة تفاصيله.

ليس غريبا ان العالم العربي أسوأ إقليم في العالم في مكافحة الفساد، فهو الأكثر قدرة على التعايش معه، وبالتالي يجسد مفارقة الكيانات الضعيفة والهزيلة، لنتصور حجم ما قدمته المنطقة العربية من موت مجاني في اقتتال داخلي وصراعات محلية وفوضى وانقلابات وضجيج سياسي مفرغ من ابسط مضامين السياسة على مدى العقود الستة الماضية. ألم يكن هذا سوى مجرد صراع على اقتسام الفساد بين نخب فاسدة، لنعيد التفكير بالهزائم المتلاحقة والاحتلالات والاستباحة الواضحة، وبالتبعية وما رافقها على مدى هذه العقود؛ هل يوجد نظرية تفسيرية أكثر منطقية ودقة من قدرة المجتمعات العربية على التعايش مع الفساد وتسويغه، كذلك هو الأمر في تفسير فشل مشاريع التنمية الوطنية وما بددت من أموال وثروات وسرقت مستقبل أجيال بأكملها، والفساد الأكبر من ذلك كله الخيانة التي مارستها النخب العارفة على مدى ستة عقود في عجزها عن توطين ثقافة تُعرّف الناس بالعلة الأولى للهزائم والضعف واقتراب تحلل العديد من الكيانات؛ بل الوجه الآخر للفساد الكبير هو دور هذه النخب في توطين ثقافة تتعايش مع الفساد وتبرره.

[email protected]