"قوى الظلام" تختطف زهرة الربيع!

بالرغم من الأجندة المعتدلة البراغماتية لحزب النهضة التونسي، وبالرغم من أنّ زعيمه راشد الغنوشي معروف بنزوعه الليبرالي منذ سنوات طويلة، إلاّ أنّ ذلك لم يشفع للحزب أمام صحيفة "الديلي تلغراف" التي كتبت في افتتاحيتها محذّرة من أنّ "قوى الظلام" تربض خلف "اليقظة العربية" الحالية، بعد أن استعرضت الحضور الفاعل للقوى الإسلامية في مصر وتونس وليبيا.اضافة اعلان
هي، إذن، الفزّاعات ذاتها التي استخدمتها الدول العربية سابقاً، وحصلت بموجبها على "صفقة تاريخية" مع الغرب، تمثّلت بمقايضة حماية المصالح الغربية بتجاهل فساد تلك الأنظمة وانتهاكاتها لحقوق الإنسان واستبدادها وتسلطها وحكم المجتمعات بالحديد والنار والأمن.
تلك "الصفقة" منحت "صكوك غفران" للأنظمة الموالية على حساب الديمقراطية، وانتهت عملياً بثورة الديمقراطية العربية، ولا يزال هنالك تيار عريض في الغرب لم يستوعب التغيير الكبير الذي حدث في المنطقة العربية، ويريد إبقاء التحولات ضمن "معادلة" الرؤية النمطية الغربية: أنظمة جديدة بدماء مختلفة، علمانية، تحمي المصالح الغربية، بدون النظر فيما إذا كانت القوى الإسلامية، اتفقنا أم اختلفنا معها، بالفعل تحظى بحضور سياسي، يمنحها الحق في أن تكون في الحكم والسلطة خلال المرحلة المقبلة!
حُكمت كلّ من تركيا وتونس بـ"العلمانية المتوحشة" المعادية لكل ما هو ديني، رمزياً واجتماعياً وثقافياً وتعليمياً، فماذا كانت النتيجة بعد عقود؟ التيار الإسلامي يكتسح الانتخابات في الدولتين. وفي مصر تعرّضت جماعة الإخوان إلى أبشع صنوف التعذيب والاضطهاد والاعتقالات والمجازر (في السجون)، وهي اليوم الرقم الأصعب في المعادلة السياسية. وكذلك الحال في ليبيا التي حاول القذافي أن يخترع ديناً جديداً فيها، وإذا بالشباب الإسلامي الذي زجّ به في السجون هو من يحكم البلاد بعده. وستكون النتيجة نفسها في سورية واليمن، والحبل على الجرار..
جرّب الغرب والأنظمة العربية (المترنحة اليوم) الأساليب القمعية والدموية والأمنية جميعاً وفشلت في وقف "الصعود الإسلامي"، بل ربما هذه الأساليب هي أكثر ما خدم الحركات الإسلامية ومنحها مشروعية شعبية، وكرّس وجودها في الشارع. فـ"الدرس البديهي" أنّ استمرار استخدام هذه الفزّاعات لم يعد يجدي ولا يخدم أحداً، ولو أجلنا الاستحقاق الديمقراطي في تداول السلطة سنوات، كما يطالب بعض العلمانيين خوفاً من الانتصار الإسلامي في الانتخابات هنا أو هناك، فإنّ النتيجة لن تؤدي إلى تقوية التيار العلماني، إلا إذا أعاد النظر في مواقفه من الدين وعلاقته بالمجتمع، نحو رؤية إسلامية تتواءم أكثر مع طرحه الفكري. بيت القصيد، أنّه لا يمكن استنساخ المجتمعات الغربية وثقافتها في الدول العربية، بل لا بد أن تنسجم الأنظمة السياسية مع طبيعة المجتمعات وتوجهاتها العامة. وإذا كان هنالك "ضمانات" محددة مطلوبة، فهي تتمثل فقط بالالتزام بالآليات الديمقراطية وتداول السلطة ونزاهة الانتخابات والتعددية السياسية واحترام الحريات العامة والحقوق الفردية وحقوق الإنسان، وتأسيس المعادلة السياسية على قاعدة "المواطنة"، وهو ما ستدافع عنه الشعوب اليوم وغداً.
بعد ذلك؛ من حق أي مواطن أن يختار الحزب الذي يريد والبرنامج الذي يرتاح إليه وينسجم مع مصالحه. وحينها، أكاد أكون متأكداً أنّ احتكار التيار الإسلامي للشارع سيتراجع، لأنّ تيارات متعددة ستنبلج من رحم التيار الإسلامي، وستختفي الشعارات الأيديولوجية وتبرز مكانها برامج اقتصادية ورؤى اجتماعية وثقافية. صيرورة المسار الديمقراطي ستنقل المجتمعات من حيّز "الإسلام السياسي" إلى "السياسات الإسلامية" أو المحافظة، وتنهي احتكار تيار معين للإسلام في اللعبة السياسية. ولعل حزب العدالة والتنمية التركي (بالرغم من الاختلافات) يمثّل "نموذجاً" على إمكانات هذا التحول المطلوب.