قيم الحياة اليوميّة

تصلح كلمة "القيم السلوكية" عنواناً لهذا المقال، وهو وإن ابتعد عن متن التحليل السياسي، فإنه يقع على هامش الحياة العامة بملابساتها السياسية والاجتماعية والثقافية، وأحوالها المختلفة، مستوحى من مفارقات مدهشة تحيط بنا دون أن نلتفت إليها تحت وطأة المعاناة اليومية سواء مع الأحداث السياسية العاصفة المكئبة أو حتى الالتزامات المرهقة على كتف كثير من المواطنين.

اضافة اعلان

أدق ما يعبر عن الفكرة الرئيسة هنا هي كلمات للمفكر البحريني المعروف، د. محمد جابر الأنصاري، إذ يرى أننا نريد إصلاح العالم من حولنا بينما نحن عاجزون عن إدارة حياتنا اليومية بنجاح، ويقول، كذلك، إننا نطالب بكنس الامبريالية من بلادنا، ونحن لم نكنس أبواب بيوتنا! الفكرة هي ذلك الخيط الذي يربط بين العام والخاص- الفردي وبين السياق السياسي والثقافي. فلا يكفي أننا نعيش بؤساً سياسياً وأزمات اقتصادية خانقة تطال شريحة واسعة من المجتمع فإننا أيضاً نتفنن في صناعة البؤس الاجتماعي واليومي، بوسائل وأدوات شتى، تظهر في كثير من سلوكيات خاصة، لكنها تعبّر عن أزمة ثقافية عامة.

مشاهد "أزمة القيم اليومية" ترافقنا في مجالات شتى؛ لا يمكن حصرها، لكن يمكن الاستئناس بأمثلة قليلة عليها، بدءا من الشارع وآداب وأخلاق قيادة السيارات، حيث الاستهتار بأرواح الناس وحياتهم، من قبل السائقين، بخاصة المركبات العمومية، وهي التي تفتقد في الأغلب الأعم لأي ملمح جمالي وأخلاقي؛ غالباً ما تكون مركبات مكتظة، سائقين متهورين، ألفاظا نابية على مسمع الحضور، تدخينا بلا أي اعتبار للقانون وللحالات الإنسانية التي تعاني من أمراض الرئة وغيرها، وإذا حاول أحد الاعتراض ربما يورّط نفسه في معركة "لفظية غير متكافئة" بينه وبين بعض الركاب أو حتى سائق الحافلة ومساعده! ثم يسألونك عن سبب ارتفاع نسبة الحوادث والإصابات، أو ما يسميه الزميل والصديق إبراهيم غرايبة بـ " حرب الشوارع" التي يروح ضحيتها آلاف الناس سنوياً!

في الشارع أيضاً؛ رميٌ للنفايات في الطريق من سيارة فارهة! مشاة يستثقلون الالتزام بإشارات مرور المشاة، وهي الإشارات التي تبدو ظلاًّ  ثقيلاً على السائقين أيضاً، حالة من النزق الأخلاقي والتوتر في العلاقة بين السائقين، وكأننا في حلبة صراع ومنافسة واستعراض للقوى.. مشهد، للأسف، تغيب عنه الملامح الجمالية التي تعكس الذوق العام.

الأزمة السلوكية تصيبك في خيبة أمل كبيرة حتى من النخب المثقفة والمعارضة، فكثير من الشخصيات، الذين يتصدرون الساحة السياسية والإعلامية، لا يمثلون قدوة للشباب الصاعد، لسبب وحيد، لكنه حاسم، ذلكم هو الفصام الواضح بين خطاب هذه النخب وسلوكها العملي. فالبعض يتحدث عن المصالح العامة ويحرّض ضد الهيمنة والاحتلال ويدعو إلى مقاطعة البضائع الأميركية والإسرائيلية ويشبع الناس كلاماً عظيماً في الديمقراطية والوطنية والقومية وفي الدين لكنه يصغر كثيراً عند مصالح خاصة بائسة، وعند فتات يلقى إليه، يتحدث عن الجوع والفقر وهو ينال من ضرائب الناس وحصتهم أموالاً تكفي أسراً فقيرة لا تكاد تملك ثمن الدفء ورغيف الخبز.

وإذا كان الدين - بما يحمله من قيم ووظيفة اجتماعية وأخلاقية- يفترض أن يشكّل رافعة رئيسة للخروج من هذا الواقع، إلاّ أنّ الشعور الحقيقي بالأزمة ينعكس على ظاهرة التدين، نفسها، التي تجتاح المجتمعات العربية والمسلمة اليوم، ووجهتها الحالية السلبية؛ إذ يطغى عليها جانب شكلاني يفصل بين العبادات والصلاة(التي يفترض أنها تزكي الروح والأخلاق والقيم الجمالية وترتقي بها) وبين الأخلاق والممارسة العملية، فترتدي الفتاة الحجاب ويطلق الشاب المسلم اللحية، ويتم التركيز على الالتزام الظاهري بالإسلام، لكن مع إغفال أو التقليل من أهمية قيمه الجوهرية وأخلاقه الرئيسة (كالصدق والأمانة والبر والنزاهة وأدب التعامل العام والخاص والالتزام بالعقود والأوقات...) وكأننا لا نقرأ قول الله عز وجلّ: " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون".

فأين اختفت هذه المعاني الأخلاقية والجمالية من ديننا، فتغلبت عليها القشور والدعاوى وتسطيح الدين!

أين نحن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من شعب الإيمان"؟! وأين نحن من قول الرسول صلى الله عليه وسلّم: "تبسمك في وجه أخيك صدقة"، ولو قُدّر لنا أن نستعرض القرآن ونتأمل بآياته لوجدنا كم هي المساحة الكبيرة الهائلة في التركيز على القيم الأخلاقية والجمالية وربطها بأصول الإيمان وفروعه، كما يسجّل ذلك الأستاد محمد قطب في دراسته الرائعة "دراسات قرآنية"، لكن المشكلة هي، كما يرى المفكر المعروف، علي الوردي، أنّنا استسلمنا للمنطق "الصوري" حتى في التعامل مع الإسلام ومقاصده وأحكامه!

حدِّث ولا حرج عن تراجع أهمية القراءة والثقافة والكتاب والمطالعة، وغلبة القيم الاستهلاكية (بصورة مشوّهة)، وسيادة الروح الفردية والأنانية على حساب القيم التطوعية والتضامنية وحافز الانتاج والعطاء..

هذا ليس جلداً للذات، لكنه للتذكير والنقد الداخلي الصادق. فبالتأكيد هنالك مساحة جميلة ومحترمة لا تزال في حياتنا الاجتماعية الخاصة والعامة، وليس كل المشهد أسود، لكن ذلك لا ينفي ضرورة إعادة الاعتبار للمسألة الثقافية وللقيم العملية وللتفاصيل المهمة التي تشكل المشهد العام، حتى يكون المجتمع رافعة للسياسة لا قاعاً لها!

ما أحوجنا إلى علماء اجتماع ومفكرين ومثقفين وفقهاء يقتربون من الأمراض الحقيقية التي تنخر فينا يومياً، فيقدمون خطاباً اجتماعياً إصلاحياً، خارج ملهاة السياسة! فلدينا مهمات إصلاحية هائلة يمكن القيام بها.. 

[email protected]