كأن شيئا لم يكن!

حقيقة الفساد في بلادنا مبهمة، فلم تخضع بعد لتقييس معرفي صارم. وارتفع في موازاة ذلك منسوب الوشاية بالآخرين، وفقا لشبهات فساد كثيرة منها لا يثبت في نهاية الأمر. حتى التقارير الرسمية بهذا الخصوص تأتي خالية من المقاربات التي تأتي على أذهان من تسنى لهم الاطلاع على أي من مشاهد الفساد المنتشرة في المركز والأطراف.اضافة اعلان
وفقا لآخر التقارير السنوية التي سلمتها هيئة مكافحة الفساد إلى رئيس الوزراء، فإن "الهيئة" ساهمت عبر القضايا التي نظرت في تفاصيلها، في استرداد 25 مليون دينار. كما أنها استردت بعض الأراضي وأعادتها إلى خزينة الدولة.
ثمة ما يدعو إلى التأمل في مبلغ الاستردادات التي توصل إليها القضاء، وأسهمت فيها "الهيئة"، والبالغة 25 مليون دينار. فبقسمة هذا المبلغ على عدد أيام السنة، يصبح حجم ما تم استرداده يوميا في حدود 70 ألف دينار. وفي تقديري أن حجم الفساد في البلاد يتخطى ذلك؛ فلا يبدو رقم 25 مليون دينار مقنعا لكثيرين، رغم أن الجهد الذي تبذله "الهيئة" مقدر في هذا الشأن.
من جانب آخر، فإن كثيرا من المعلومات والشكاوى والأخبار التي ترد إلى هيئة مكافحة الفساد تنطوي على تشهير في غير محله، ربما لأسباب انتقامية، أو لمناكفات ذات أبعاد متعددة. ففي العام الماضي، تلقت "الهيئة" 1808 شكاوى وإخبارات تم التحفظ على ثلثيها، فيما بلغ إجمالي القضايا التي تعامل معها قسم المعلومات والتحقيق 230 قضية فقط، وشكلت أقل من 13 بالمئة من إجمالي ما ورد إلى "الهيئة" في العام 2013. والحالة هذه، فإنه يمكن القول إن الوشايات منتشرة بين الموظفين وعموم أطراف المجتمع وبيئة الأعمال، بقصد المناكفات، فيما تضيع البوصلة الحقيقية لخطر الفساد ضمن هذه التفاصيل التي تربك كل من يتعامل معها.
في الأثناء ستمر التسوية النهائية لقضية الرئيس السابق لمجلس إدارة شركة مناجم الفوسفات وليد الكردي، والتي وصلت فصلها الأخير في مجال تسوية ستعيد بعض الأموال، في مقابل حرية المتهم الأوحد في هذه القضية التي شغلت الرأي العام، باعتبارها ترصد فسادا بمئات ملايين الدنانير في شركة تعد ثروة وطنية، لكنها تعرضت لهزات وانتكاسات خطيرة في العقد الأخير. والمفارقة أيضا أن تقييد الفاسدين بات أمرا عسيرا اليوم؛ ففي معالجة الملفات الكبيرة أخفقنا جميعا.
خلال احتجاجات "الربيع العربي"، ومع تصاعد نبرة انتقاد الحكومات في قضايا الفساد محليا، كانت هذه الحكومات تتعامل بحذر مفرط مع حساسية الشارع تجاه الفساد والمفسدين، وتسعى إلى استيعاب كل الصراخ الذي تصاعد آنذاك. لكن الزمن تبدل وخبت جذوة الاحتجاج، وأصبح "الربيع" بالنسبة للبعض لعنة؛ فعادت جولات العلاقات العامة لتتصدر المجهود الرسمي والإرادة الحكومية المتعلقة بهذا الملف الثقيل، في الوقت الذي لا يرى فيه كثير من الأردنيين أي جدية في التعامل مع الفساد. فالناس يتغامزون على بعضهم في ظل وشايات لا تنتهي، ومنتوج هذه المعلومات قضايا محدودة جعلتنا نسترد 25 مليون دينار فقط خلال عام واحد، بينما تاهت القضايا الكبرى في دهاليز التسويات والصفقات، وكأن شيئا لم يكن!