كتاب: نظم تربوية وتعليمية أدت إلى نشوء أربعة أجيال غربت عن الثقافة

جمال القيسي

عمان- تدهور الاوضاع المالية للمبدع العربية يرتبط كثيرا وعميقا في حيثيات صدور كتابه، وكيف يتم توزيعه، وما علاقته المالية بهذا التوزيع، والى أي حد يستفيد من رواج كتابه كما يقتضي المنطق، وقبل ذلك لا بد من التساؤل عما اذا كان الكتاب الابداعي رائجا أم لا، فلا يظلم الناشر ضربا بالظن بأنه يظلم الكاتب.اضافة اعلان
والسؤال يقود الى آخر في البحث عن ضمانات أو اشتراطات تضمن للكاتب العربي ان ما سيوزع من كتابه سيعود عليه بالنفع المادي، لا ان ينطق حاله بالأسى والواقع المرير بأنه يسعى فقط نحو ان لا يخسر ماليا من طباعة كتبه كما حال البعض، ومن أكاديميين ايضا يشاركون المبدع هذا الحال.
هل يصل الامر الى التسليم بأن "الابداع والمال لا يجتمعان" وأن فضائية بإعلانها او الاشارة منها الى كتاب ستجعله ينفد في اليوم التالي، أم ان الأمر على درجة قصوى من الأهمية بضرورة التفات الدول العربية الى كنوز مبدعيها، وعد الاستهتار بما لديهم من ذخيرة وعمق ثقافي استراتيجي سيقيها الاندثار وإن طال الأجل.
د. خالد عبد الرؤوف الجبر يقول "لعلنا ننظرُ إلى المسألة من زاوية بعيدة عن السّائد قليلاً؛ فهي أعمقُ من أن تُحصَر في تدنّي مستويات الإقبال على الأعمال الإبداعيّة شراءً وقراءةً وتسويقًا، وأوسعُ من قَصْرِها على سلبيَّة دورِ النّشر العربيّة والنّاشرين الذين يستلبونَ المبدعينَ حُقوقَهم، ولا يجوزُ النّظرُ إليها بوصفِها تَمَظْهُرًا لضحالةِ الثقافة، والأمّيّة الثقافيّة، والانسلاخِ من الجُذور من جِهة، ومن الحداثة من الجهة الأُخرى".
ويوضح "بأنّ تدهْوُرَ حالِ المبدعِ العربيّ تجسيدٌ لتدهُورٍ مقابلٍ في الحالِ العربيَّة عُمومًا" معتبرا أننا "نعيشُ أزمةً حقيقيَّةً على مستوىً وُجوديّ؛" إذ ليسَ لدينا منذُ عقود من الزّمن "مشروعٌ عربيّ واحد يطمَحُ للمستقبل إلاّ مشروعُ تحقيق السّلام بشروطٍ تُناقضُ مبدأ وجودِنا".
ويتابع "ومنذُ انحسرَ المدّ القوميّ في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وتقهقرَت التيّاراتُ اليساريّة المثقّفة، وارتَمينا في أحضانِ الأمركة، فقَدْنا كثيرًا من إحساسِنا بالوجود القوميّ، وسادَت مجتَمعاتِنا توجّهاتٌ استهلاكيّةٌ، وحاصرَتْنا ثقافةُ الاستهلاك والانسلاخ حتّى أصبحَنا ضائعين كالمنبتِّ: لا أرضًا قَطَعَ، ولا ظَهْرًا أبقَى".
ويشير الى أنه "تدنت مستوياتُنا في التعليم الإلزاميّ والعالي، وحاصرَنا الليبراليّون بمفهومٍ مَسْخٍ للثقافة والإبداع حين حصرُوهُ في الأدب والموسيقى والفنون التشكيليّة والفولكلور، وتناسَيْنا المفهومَ الحقيقيَّ لها بوصفِها أُسُسَ صياغةِ المجتمع وعلاقاتِه ووجدانِه وتوجّهاتِه، وقزَّمْنا دورَ الإبداعِ بوصفِه الوسيلةَ الحقيقيَّة لتجسيدِ المفاهيم والأسس".
ويخلص في هذا السياق الى أننا "ببساطَة: انهارَت المُجتمعاتُ العربيَّة في طُموحاتِها وأسُسِ صياغَتِها ووسائل تلك الصّياغة".
ويسلم أن "الإبداعَ يحتاجُ إلى أفرادٍ مبدِعين"؛ لكنَّه لا يتنامَى ليصبِحَ ظاهرةً، بل حالةً اجتماعيّةً عامَّةً إلاّ بالبيئة الاجتماعيَّة الإبداعيّة" لافتا الى أن "المطّلعُ يجدُ أنّ هذه البيئة التي توفّرت في الخمسينيات حتّى أواخر السبعينيات من القرن الماضي قد اندثَرَت، أو عُمِلَ بصورة منظَّمة على تهميشها وإقصائها وإلغائها، وهكذا غُيِّبَ المبدِعون وهُمِّشُوا وأُقْصُوا، إلاّ فئةً محصورةً ظلّت تُغازلُ المركزَ وتستجديهِ وتستعطِيه".
وأوضح أنه "سُخِّرت لهذه الغايةِ مؤسساتٌ حكوميّة، وأهليَّة جعلت نصبَ أعيُنِها خَنْقَ الإبداعِ بوصفِه حالةً اجتماعيَّة، وتشجيعَ التّوجّهات الفرديّة المعزولة فيه" رائيا أن الجماهير فقدت صلتَها الحميمةَ بالإبداع، وتراجعَت عن متابعتِه والإقبال عليه وشُجِّعَت إعلاميًّا على متابعةِ التّافهِ منه، الذي لا يهُزُّ مشاعرَها القوميّة الوجدانيّة، ولا يُثيرُ تعطُّشَها لأحلامٍ طالَما طَمَحَت إليها، بل أُبرِزَ السَّقيمُ الفاسدُ، ونُحِّيَ الجيِّدُ قصدًا.
ويعتبر الجبر "مشكلةَ المبدع العربيّ الجيّد أيضًا أنّه أصبحَ نُخبويًّا جدًّا وسطَ جُمهورٍ عازفٍ عن الإبداع، منشَغلٍ بقضايا لُقمَةِ عيشِه وحياتِه ووجودِه "حيث استأثرَ المبدِعُ ببُرْجِه العاجيِّ نائيًا بنفسِه عن هُمومِ النّاس وقضاياهُم، مُلْتَفِتًا إلى ذاتِه الفرديَّة وهُمومِه الخاصَّة".
ويلفت الى أنه "من بين مائة رواية مثلاً تجدُ أقلّ من ثلاث تُعالجُ قضايا النّاس بصورة فاعلة، أو تلتفتُ لفلسطين وقضيّتِها العادلة بطريقة فنّيّة جميلة جاذبة للقراءة، في حين تجدُ عشرة أضعافِ هذا العدد من الروايات الفاضحة التي لا توظِّفُ الجنسَ إنّما تجعَلُه هدفَها الأوّل، فضلاً عن بذاءات وقذاراتٍ لا تُطاق. كيفَ يشجِّع الأهلُ أبناءَهم على القراءة في هذه الحال؟
ويبين أنّ جوانبَ كثيرةً في نظامِ حياتِنا كانت فاعلةً بصورة سلبيَّة في تدنِّي حال المبدع العربيّ، ليسَ أقلَّها تأثيرًا هذا الانقلابُ في المفاهيم، وسُوءُ إدارة الموارد، اللذانِ جعلا الثقافة والإبداعَ، ومعهما التعليم والقراءة، في أسفلِ درجاتِ السُّلَّم، وهُما على العكسِ ينبغي أن يكونا في قمَّةِ سلَّمِ الأولويّاتِ والاهتمام.
ويخلص الى أنه قد شجَّع ما تقدّم كلُّه على "انتشارِ مخطوطاتٍ ساذجة في أيدي النّاس حتّى أصبحوا يُقْبِلُون على التّسلية والتّرفيه، ولا يمكنُ تجاهلُ دور الإعلام في بلوغِ هذا المستوى من الضّحالة مستشهدا بقول" صديق يبيع الكُتب أنّ أحدَ "دُعاةِ الفضائيّات" كانَ إذا ذكرَ اسم كتابٍ في حلقتِه نَفِدَت نسخُه من السّوق في اليومِ التّالي."ولعلّها تستقيمُ تلكَ القولةُ بأنّ الإبداعَ والمال لا يجتَمِعانِ".
القاص والروائي الياس فركوح يلفت الى أن عملية النشر تشكّل مفصلاً أساسياً في "صناعة ثقافية" ذات أبعاد حضارية، واجتماعية، وإنسانية، واقتصادية، ومعرفية، وتربوية، وتنموية أيضاً. ولأنها كذلك، فإنها لدى شعوب أدركَت هذه الأبعاد، تندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ"الصناعات الثقيلة" فعلاً".
ويلتف الى أنه عند معاينتنا غير المجاملة وغير الناقصة لها داخل مجتمعاتنا العربية، فإنها تكاد لا تشكّل حتّى "صناعة خفيفة"! موضحا "دَعْ عنكَ كل ما قيلَ ويُقال على ألسنة جميع المسؤولين السابقين والحاليين، وكذلك على ألسنة الوارثين لهم عضوية ناديهم المُبَجَّل في قادم الحقب".
ويوضح أن "المسألة تكمن في نقص الإحاطة الفادح لديهم جميعاً بكّل ما سَلَف من جهة (وليس نقص الموازنات والمخصصات أبداً) إضافة إلى "الوصفة الذهبيّة" في كيفيّة تشكيل الحكومات عندنا، و"القاعدة الصلبة" المأخوذ بها عند اختيار الوزراء والمسؤولين".
ويعتبر أن هذا يشير للمرّة المليون إلى "المكانة" الحقيقية للثقافة في أذهان الرؤساء لحظة الوقوع على مَن تَبَقّى من أسماء مرَشَحَة ليكون وزيراً لها "هي آخر الوزارات المنظور في أمر وزيرها! ليس لأنها "سياديّة عُليا" تقتضي التأجيل والتريّث، بالطبع؛ وإنما لجملة الأسباب السالفة الذكر".
ويتساءل عما اذا كان يجافي حقيقة الواقع المعيش إذا ما تجرأ فقالُ "إنّ خَللاً جوهرياً ضربَ المجتمع في معاييره، بسواد فئاته، بحيث باتَ الكتاب وكاتبه وناشره، وحتّى القارئ له، قيد "الإقامة الجبريّة في حدود هامش الهوامش".
ويبين ان "المجتمع الذي أخذ الفرد فيه، ومنذ أكثر من أربعة عقود، ينظر للمعلّم ولكتاب المدرسة باستخفافٍ يخالطه النفور والكره في كثير من الحالات، لا بل الاستهجان كذلك، لهو مجتمعٌ طاردٌ بالضرورة لكافة عناصر العمليّة التعليمية والتثقيفية، وبالتالي هو مجتمع يتصفّ بالخِفّة لكنه "يتعالى ويتطاوس ويتعالم" بينما قواعده المعرفية آخذة بالتفكك!
ويخلص الى "اذا كان هذا دقيقاً، بنسبة أو بأخرى، فهل ننتظر من مسؤولينا، باعتبارهم من "النُخَب المختارة" بحسب تلك المعايير، أن يدركوا فداحة الهاوية التي نقف على حوافها"!
ويعتبر أنه إذا كان ثمّة إدانة مباشرة، فهي"إدانة النُظُم التربويّة والتعليميّة التي أدّت إلى نشوء أربعة أجيال غُرِّبَت عن الكتاب، وأُبْعِدَت عنه باعتباره مفردةً حيويّة وثابتةً في يومياته. أنظمة سياسيّة وجهات تخطيط "وطنيّة" أيضاً، تتحمل المسؤولية عن "عمليّة تجهيل" ممنهجة ليست بريئة، بالتالي، على الإطلاق! مَن "في فمه ماء فليجرعه أو يدلقه، لأنّ الإبقاء عليه هي مشاركة منه في التغطية على نَحْر وطن"!
الناقد د. زياد ابولبن لا يستغرب متأسيا "أن يتحوّل الكاتب إلى تاجر (شنطة)، فيدور على المكتبات والمؤسسات كي يبيع كتابه، ليسترد خسارات طباعة كتابه، ومن لا يفعل ذلك ويترك الأمر إلى الناشرين، فهو يكتفي بتوزيع كتابه، لا ربح ولا خسارة، أما بعضهم وهم قلّة، فيستردون بعضاً من حقوقهم، لا تسمن ولا تغني من جوع".
ويتساءل عمن هو "الكاتب الذي يعتاش من كتابته، ولا يعمل "سوى التفرغ للكتابة" معتبرا الأمر عائداً إلى "أن أهمية العلم والأدب والفن في بلادنا تأتي في أدنى أولويات الناس، فتتقدم عليها ثقافة الأقدام (الفوتبول)، والفضائيات والإنترنت والألعاب الكترونية".
وكذلك "ينشغل الناس بالسياسة والحياة اليومية المستهلكة، فتتفرغ المدارس والجامعات من دورها التعليمي، وتصبح الشهادات غاية العلم وليس وسيلته، "وقد ينبهر الناس العامة بحديث المثقفين والكتّاب، ولكن الناس لا تقرأ، ولا تهتم بالكتاب. وكثُر الكتّاب في هذا الزمان، بل قد تجد آلاف الروائيين والقصاصين والشعراء في الوطن العربي، ولكن من هو الكاتب الحقيقي"؟!
ويقول "فكيف نستطيع أن نقنع الناس بأهمية الكتاب؟! حيث المسألة معقدة، "والكتّاب من فصيلة الرخويات يناطحونك في كتاباتهم، فيظنّ أن مَنْ ألف كتاباً أو امتلك عضوية الرابطة أو الاتحاد أو نادٍ في قرية نائية أصبح كاتباً عظيماً".
ويربط ذلك بحال رابطة الكتّاب الأردنيين وحدها التي يبلغ عدد أعضائها ما يقارب السبعمائة عضو، اضافة الى اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين وأعضاء المنتديات والنوادي والجمعيات والجامعات، قد يزيد عددنا على عدد أعضاء الكتّاب في الصين!!

[email protected]