كرايس تشيرش، عقدة الضحية البيضاء والرأسمالية الهمجية

Untitled-1
Untitled-1
ترجمة: علاء الدين أبو زينة بِن دِبني* – (كاونتربنتش) 15/3/2019 على الرغم من إنكاره ذلك، فإن كراهية الأجانب والمعاداة للمسلمين كانت كامنة بوضوح تحت سطح البيان المكون من 74 صفحة الذي جمعه القاتل الجماعي الاسترالي، بريندان تارانت. ويشير العنوان نفسه "الاستبدال العظيم" إلى نظرية المؤامرة التي ابتكرها اليمن المتطرف، والتي تعتقد بأن ثمة إبادة جماعية للبيض قيد الإعداد على يد مجموعة من الحمقى بين أعضاء النخبة الليبرالية، والذين يدافعون عن الهجرة الجماعية، والنمو الديمغرافي والتنوع الثقافي. وفق نظرية المؤامرة هذه، يتماهى الفشل في الحفاظ على السيادة الثقافية والعرقية مع دمار البيض. ويكمن سياسة السخط التي يعتنقها اليمينيون اعتقادا بأن الاعتراف بوجود الثقافات والمجموعات العرقية الأخرى واحترامها يرقى إلى قتل الذات. وهي تعكس عقلية الأنا المتضخمة، التي ما يزال يترتب عليها اكتشاف وجود الآخرين خارج مملكة المألوف، والمرتبط في الممارسة بالأنا. ثمة الكثير الذي يقوله حدوث هذا العمل الوحشي في نيوزلندا في نفس اليوم الأخير لسلسلة من الإضرابات واسعة النطاق التي قام بها طلبة المدارس الثانوية في كل أنحاء أستراليا والعالم من أجل المناخ. من ناحية، اتخذ هؤلاء الطلبة المهددون مباشرة بأزمة حقيقية خطوات نشطة لعمل شيء إيجابي وبنَّاء. ومن ناحية أخرى، ارتكبت مجموعة صغيرة من الناس المهووسين بفكرة التهديد الذي يمثله وجود الآخرين عملا فظيعا، سلبيا ومدمرا. ولا يمكن أن يكون التناقض بين الفريقين أكثر وضوحاً. ما الذي يمكن أن نفهمه من الفرق بين الحالتين؟ في عمل مهم صدر في العام 2017، يتساءل الأنثروبولوجي، غسان الحاج: هل العنصرية تهديد بيئي؟ ويقيم الحاج الصلة بين الارتفاع العالمي لاتجاهات العنصرية والديماغوجية والغوغائية، والتي يمكن أن نصنف ضمنها بسهولة مذبحة كرايستشيرش الأخيرة، وبين رد فعل مجموعات النخبة على التداعيات الاجتماعية للتغير المناخي. مع نشوء حاجة إلى حدوث تغيير اجتماعي هادف وعميق بين قطاعات تزداد اتساعاً باطراد من سكان العالم، كما يقول الحاج، أصبحت أزمة المناخ تشكل تهديدات تصبح أكثر وضوحا وحضورا لامتيازات النخب. وقد فعلت ذلك في معظم الأحوال، كما يعتقد الحاج، من خلال هجوم الحقائق العلمية والخبرة اليومية المعيشة على الترتيبات التقليدية التي أدامت نظاما عالميا من الذين يملكون والذين لا يملكون، والقائم على 500 عام من الكولنيالية. من تداعيات هذا النظام تلك الثنائية المتعارضة، "الذات في مقابل الآخر"، التي شكلت جوهر ما دعاه إدوارد سعيد "الاستشراق". ويحيل مفهوم "الاستشراق" إلى إطار أبوي من المرجعية للشعوب المُخضَعة المغلوبة، والمستخدم لعقلنة وتبرير الرغبة في استخلاص الموارد والاستيلاء عليها extractivism في البلدان المستعمَرة باعتبارها "تمديناً للهمجيين" –وهي عقلية تتجذر في الميل الروماني القديم إلى رؤية كل الذين ليسوا تحت سيطرة الرومان كـ"برابرة"، إلى أن يتم "تمدينهم" (مع استيفاء كل المكافآت الواجبة للقوة الإمبريالية). هكذا تشكلت القواعد، في رأي الحاج، لنشوء ميل في داخل الرأسمالية المتقدمة إلى التأرجح بين ما وصفه بالرأسمالية "الهمجية" و"المتحضرة" –حيث الرأسمالية "الهمجية" هي ذلك التجلي المتطرف المرتبط بالفترة المبكرة من الكولونيالية؛ بينما "المتحضرة"، على النقيض من ذلك، هي ذلك النوع الذي يرتبط عادة بالرأسمالية الصناعية الحديثة والديمقراطيات الليبرالية المصاحبة لها. في جوهره، عكس هذا الميل إلى التأرجح دينامية صنع كبش فداء، مشتقة من حقيقة أن التطور الرأسمالي بقي عملية مستمرة بعد أن وصل مرحلة متقدمة. وظل الأمر على هذا النحو بينما أصبحت الرأسمالية المتأخرة مبتلاة بالأزمات الدورية المدفوعة بميل معدلات الأرباح إلى الهبوط، أو بالتحديات الديمقراطية القادمة من أسفل. وكان هذا، كما يقول الحاج، هو الذي دفع التأرجح بين المزاجات "الهمجية" و"المتحضرة" للرأسمالية، حيث عادت النخب صاحبة الامتيازات إلى استخدام العنف لإنقاذ مكاسبها من عيوب النظام الذي حافظ عليها، أو من الديمقراطية، أو من كليهما. عندئذٍ، لقيت العودات الدورية إلى الطرائق والعقليات "الهمجية"، والتي تصاحب الظروف التي أنتجت ولادتها، التشجيع كإجراء مؤقت ضد الأزمات –والتي تجسدت بالطريقة التي وثقها البحث السوسيولوجي في الهلع الأخلاقي وميل إعلام الشركات التي تسيطر عليها النخبة إلى تصنيع الإذعان من خلال التخويف وإنتاج الانحراف. وقد أنتج هيرمان وتشومسكي عملاً كلاسيكياً يسكتشف هذه الظاهرة؛ كما ميزت البحوث الأحدث وجود الهلع الأخلاقي في العملية. جاء خلق الصورة المخيفة للإسلام بشكل خاص نتيجة لقوة الإعلام السائد في السيطرة على معنى الافتراق عن المألوف وفرض تعريفاته على الخطاب العام –وليس على سمات أولئك الذين جرت شيطنتهم هكذا. وبهذا، أمكن إلقاء اللوم في الاضطراب العالمي الذي خلقه نظام عالمي تمتلك فيه أعلى 1 في المائة نصف ثروة العالم ويمتلك فيه أغنى 10 في المائة ثلاثة أرباع ثروته، على "الآخر الإسلامي". وهو ما يعيدنا إلى هذا المثال الأخير من إرهاب القوميين البيض في كرايستشيرش. ما مِن شيء خاص في هذا العمل الوحشي وما نجم عنه من خسارة فادحة في الأرواح، سوى حقيقة أنه حدث في نفس اليوم مع الجولة الأخيرة من الإضرابات الخاصة بالمناخ، والتي قادها طلبة المدارس الثانوية. ويعكس التناقض بين الهوس بالمؤامرة والأزمات المصنعة وبين الفهم العلمي الواضح لأزمة المناخ بوضوح فريد عمل الأول للتهرب من حقيقة الأخيرة وصنع أكباش فداء لها. إذا كان البيض يشعرون بعدم الأمان، فإن ذلك لا علاقة له بالتداعيات الاجتماعية والبيئية للطرائق الاقتصادية القائمة على افتراض أن العالم مصدر لا ينضب للموارد ومكب لا ينتهي للنفايات –إنه خطأ أولئك الذين يعيشون خارج الثقافة الأحادية المهيمنة ثقافياً والمعتقدة بتفوقها الذاتي. وهنا تكمن دينامية كبش الفداء التي تستخدمها الرأسمالية الهمجية، والمبنية على عقدة الضحية الأبيض الذي يرفض الاعتراف بأي فارق بين احترام الثقافات الأخرى وبين موت الذات. كما لاحظ غسان الحاج، فإن الدافع وراء نهج كبش الفداء الذي تتبعه الرأسمالية الهمجية وعقدة الضحية البيضاء يأتي من تراكم الأزمات، عندما يصبح من الصعب كنس التداعيات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية لإدامة عالم "الذين يملكون والذين لا يملكون" وإخفائها تحت السجادة. وبينما تواصل الحكومات الأسيرة للشركات في كل أنحاء العالم فشلها في التعامل مع التغير المناخي من خلال منح الربح الأولوية على صحة الكوكب، فإن المعارضة من الشباب بالتحديد يمكن أن تواصل النمو فحسب. في وجه هذا التهديد الخطير للديمقراطية، سوف تزداد قيمة نظريات المؤامرة المصنَّعة التي تختلق التهديدات الوجودية ليتم استخدامها كأكباش فداء –كل ذلك بينما تواصل أزمة المناخ تفاقمها، مشكلة تهديداً وجودياً على المجتمع البشري، والذي يصبح تجنبه أصعب باطراد. في التحليل الأخير، تنجم الفظاعات من النوع الذي حدث في كرايستشيرش عن الميل إلى إلقاء اللوم في تداعيات الطرائق الاجتماعية والاقتصادية الكامنة وراء التغير المناخي على الضحايا وأي أكباش فداء أخرى مناسبة. وتكون مدفوعة بالرغبة في إعادة تأكيد نفس الطرائق والعقليات الأساسية التي أنتجت الأزمة المتشابكة التي يشهدها عصرنا في المقام الأول. طالما استمروا في أن يكونوا مفيدين لقمع الحقيقة النهائية المتمثلة في استحالة وجود امتيازات طبقية على كوكب ميت، فإن المروجين البارزين للخوف من الإسلام في الإعلام السائد والسياسة (أندرو بولت وكوري بيرنادي في أستراليا من بين أوضح الأمثلة) سيواصلون تسويق نظريات المؤامرة التي تدفع أمثال بريندان تارانت وأندرس بريفيك إلى ممارسة العنف القاتل. وفي نهاية المطاف، يعكس الإرهاب الذي تنتجه هذه الفظاعات في المجتمعات المتأثرة نفس الخوف المصطبغ بالعنصرية، الذي وُلد منه النظام العالمي الذي يهيمن عليه الغرب، والذي تحكمنا عواقبه جميعاً بقدَر مواجهة يوم قيامية بيئي. *كاتب ومحاضر في الدراسات الدولية في جامعة ملبورن، أستراليا. *نشر هذا المقال تحت عنوان: Christchurch, the White Victim Complex and Savage Capitalismاضافة اعلان