كرة قدم.. أو ما يشبهها

لم يستشرني أيُّ كائن وراء السور قبل أن تبدأ اللعبة: هل تريد أن تلعب؟
نزلتُ مرغماً إلى المساحة الخضراء. سقطتُ، وانجرحتْ ركبتاي، وحبوتُ على قدميّ الرخوتين، ثم وقفتُ بتشجيع من أمّي وأبي، وانتظرتُ قليلاً في مكان خال من المراقبة، حتى وصلتني كرة نموذجيّة، فركلتها بموهبة وراثيّة في الشباك. فرح جمهور على يسار المنصة، وغضبَ جمهور على يمينها، ولم أكترث، واصلتُ اللعب بتوجيه من المدرّب وراء الخط الأبيض. كان يحرّكني في كافة أركان الملعب، مرة أكون ظهيراً، ومرة قلب دفاع، وكثيرا ما أكون رأس حربة.. كاملة السم.اضافة اعلان
سجّلتُ أهدافاً حاسمة، وأخرى ملعوبة للفرجة التلفزيونية، وأضعتُ فرصاً سهلة، وبكيت رغم أنّ إداريّ الفريق أخبرني أنّها مباراة "عبور" للدور الثاني. تعرّضتُ لإصابة قوية في الكاحل، فشعرتُ باهتمام وإعجاب فتيات صغيرات جئن إلى غرفتي الصحية لالتقاط الصور. إحداهنّ أخذتني إلى قصة حب خلف حدود التماس، وأنجبنا هدفاً شرعياً رائعاً. أجرت معي القناة الأولى مقابلة على الهواء مباشرة، وشاهدني كلّ الناس خارج الملعب، وسألني المذيعُ عن القادم: قلتُ إنّ اللعبة أعجبتني، وسألعب بلا نهاية.
لكنّي عرفتُ أنّ الأمر كله بيد المدرّب. أدركتُ كمن قرأ متأخّراً بنود عقد شركة غير ربحية، أنّ أقصى ما يمكن أن ألعبه تسعون دقيقة، وهي مدة افتراضيّة فضفاضة. صحيح أنّه يمكن أن يمتد اللعب إلى مائة وعشرين دقيقة، لكنّ لهذا حالات نادرة، بل إنّ معدل اللعب قبل استبدالي بلاعب يحبو على قدميه، هو ستون دقيقة فقط. ثم ستُجرى لي مباراة اعتزال، ويبدأ العدُّ باتجاه معاكس، حتى أنسحب تماماً من اللعبة، وراء السور.
جلستُ سنوات على دكة البدلاء، وأتيحت لي فرص محدودة للعودة إلى المساحة الخضراء، فدفع بي المدرّب لتنفيذ أفكاره الفنيّة، أو تسديد ركلة الجزاء باعتباري أكثر اللاعبين خبرة، وقدرة على الوصول إلى الزاوية البعيدة، ووضع الكرة في عشّ العصافير. حملتُ شارة القيادة، وهي أيضاً إشارة سيّئة باقتراب الرحيل، كمظروف مغلق يأتيكَ من “الضمان الاجتماعيّ” وأنتَ على رأس عملك. ثقلتْ خطواتي في الشوط الثاني، وعند الدقيقة التاسعة والأربعين سقطتُ بلا كرة، واستُدعيَ الطاقم الطبيّ. ضجر الجمهور، واتهمني المعلّق بإفساد المتعة، فأخرجني المدرّب عند الدقيقة الخمسين.
جلستُ على كرسيّ قصيّ في المدرّجات، أصفّقُ لأيّ هدف يُسجّل في أيّ مرمى، وأصرخُ كالحمقى إن أضاع فتى في الدقيقة الثانية ضربة حرة. كنتُ أستأذن الجالسين بجانبي من المعتزلين أن يفسحوا لي الطريق في ذهابي إلى المواعيد الدورية في المستشفيات العامة، فاللعبة اقتضت أنْ أظلّ ركناً من أركانها، ساعة في الظلّ، وساعة تحت الشمس، حتى تدوي صافرة الحكم ونذهب جمعاً، إلاّ إذا سقطتُ قبل ذلك الوقت بكثير وراء السور بذبحة قلبية، أو عدتُ من موعدي الدوريّ بأشعّة للبروستات.
.. لم أقل إني لا أريد اللعب، لكنّ أي كائن لو استشارني قبل أن تبدأ اللعبة، لفضّلتُ أن أكون وراء السور أو بعده بكثير، طائراً من الطير الصافات.