كفى تنظيراً.. الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي في الشرق الأوسط يحتاج إلى ممارسة

مسلح ينظر إلى حقل نفط مشتعل في مدينة الموصل العراقية - (أرشيفية)
مسلح ينظر إلى حقل نفط مشتعل في مدينة الموصل العراقية - (أرشيفية)
تشارلز ثيبوت؛ بيير موركوس* - (معهد واشنطن) 6/1/2021 تمثل ليبيا والعراق ومضيق هرمز ثلاث حالات اختبار؛ حيث إن المزيد من الحزم والتعاون عبر الأطلسي يمكن أن يتلازما، ولكن فقط إذا تلقت الدول الأوروبية دعماً أميركياً حقيقياً لتكثيف جهودها العملياتية والمشاركة الدبلوماسية. * * * عادة ما اتخذت الدول الأوروبية أولويات مختلفة، إن لم تكن متباينة، في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فإلى جانب القدرات العسكرية غير المتكافئة، والافتقار إلى الإرادة السياسية للانخراط في عمليات محفوفة بالمخاطر، لا سيما بلا تفويض من الأمم المتحدة، منع هذا الاختلاف إلى حد كبير ترسيخها موقفاً قوياً وموحداً في المنطقة. مع ذلك، ونظراً لتدهور العلاقات عبر الأطلسي في عهد الرئيس ترامب، والإرهاق الأميركي المتزايد من الأزمات التي لا تنتهي، يجب على الأوروبيين الآن تكثيف جهودهم الجماعية في منطقة يؤثر عدم استقرارها بشكل مباشر على مصالحهم الأمنية. الخطوات الجماعية الأولى على مدى السنوات القليلة الماضية، أدى صعود تنظيم "داعش" وصموده، واستخدام الأسلحة الكيميائية في سورية، والخطر المتزايد لانتشار الأسلحة النووية من إيران، والحوادث البحرية المستمرة في الخليج العربي، إلى دفع فرنسا وألمانيا وغيرهما من الدول إلى تجديد مساهماتها الجيوسياسية في المنطقة. وقد ارتبطت مثل هذه المساعي بالحاجة إلى بناء دول أوروبية تتمتع بقدر أكبر من الاستقلالية، وتستطيع تولي مسؤولية مصالحها الأمنية. في العراق وسورية، شارك الأوروبيون في الرد العسكري الذي قادته الولايات المتحدة ضد "داعش". وتضمنت هذه الحملة دولاً عادة ما كانت حذرة بشأن المشاركة العسكرية الخارجية، مثل ألمانيا. كما أدى الاتحاد الأوروبي دوراً فعالاً في تقديم المساعدة الإنسانية وتحقيق الاستقرار، والتي بلغت قيمتها الإجمالية أكثر من مليار يورو في العراق وحده منذ العام 2014. وفي ليبيا، أطلق الأوروبيون "عملية إيرني" العام الماضي بهدف أساسي هو التطبيق غير المتحيز لحظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة. وبالاعتماد على الأصول البحرية والجوية والأقمار الصناعية التي توفرها بشكل أساسي إيطاليا وفرنسا واليونان وألمانيا، تستفيد هذه العملية من تفويض قوي يسمح لها بتفتيش السفن التي قد تحمل مواد محظورة. وقد حققت بالفعل نتائج ملموسة، وكشفت عن الانتهاكات التركية والإماراتية للحظر. وتم تعزيز هذه الإجراءات من خلال فرض عقوبات أوروبية جديدة صدرت في أيلول (سبتمبر) الماضي، وتستهدف الشركات التي تزوّد الفصائل في شرق وغرب ليبيا. وفيما يتعلق بإيران، حافظت الدول الأوروبية على وحدتها منذ العام 2017 للحفاظ على "خطة العمل الشاملة المشتركة" وسط أزمة انتشار وشيكة تفاقمت بسبب سياسة "الضغط الأقصى" الأميركية. وتمشياً مع نهجها المتوازن، ورداً على التوترات المتزايدة مع إيران في الخليج، أطلقت فرنسا ودول أخرى عملية المراقبة البحرية الخاصة بها في كانون الثاني (يناير) 2020. وهذه المهمة، التي تحمل اسم "التوعية البحرية الأوروبية في مضيق هرمز"، تختلف عن "التحالف الدولي لأمن وحماية حرية الملاحة البحرية". "وجهان لعملة واحدة" تظل المبادرات المذكورة متواضعة، ويمكن أن تتعرقل أيضاً. فبعد فترة وجيزة من انتخاب جو بايدن، عادت الانقسامات إلى الظهور بين الأوروبيين حول مفهوم "الاستقلالية الاستراتيجية" وما قد تعنيه للعلاقة عبر الأطلسي. ووصفت وزيرة الدفاع الألمانية، أنغريت كرامب-كارينباور، هذه الفكرة بأنها "وهم"، موضحة أن الأوروبيين لن يتمكنوا أبداً من "استبدال الدور الحاسم لأميركا كمزود للأمن". ومع ذلك، فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "اختلف بشدة" مع مثل هذه الآراء، مجادلاً بأن الولايات المتحدة لن تحترم الأوروبيين إلا إذا كانوا "يتمتعون بالسيادة في ما يخص دفاعهم". وكما لاحظ العديد من الخبراء، فإن الاختلافات الاستراتيجية الفعلية بين هذه البلدان أضيق مما توحي به المناقشات المفاهيمية. ففي مقال مشترك نُشر في صحيفة "واشنطن بوست" في 16 تشرين الثاني (نوفمبر)، شدد وزيرا الخارجية الفرنسي والألماني على أن تعزيز أوروبا بصورة أقوى وإقامة شراكة أكثر توازناً عبر الأطلسي هما "وجهان لعملة واحدة". وبالفعل، يمثل الشرق الأوسط العديد من التحديات الأمنية الفورية التي يحتاج الأوروبيون بشأنها إلى تعزيز جهودهم وإعادة تنسيق عملهم مع واشنطن. الاتجاه السائد في أوروبا هو ميلها إلى انتظار أن تعلن الولايات المتحدة عن سياسة معينة قبل الإقدام على أي خطوة. وما يحدث اليوم ليس استثناء لهذه القاعدة؛ حيث تعقد العديد من الحكومات آمالاً كبيرة على الرئيس المنتخب بايدن. لكن هذا الموقف الخامل خطير، رغم كونه يفسح المجال أمام إيران وروسيا وتركيا والجهات الفاعلة الأخرى لترسيخ وجودها على المسارح الإقليمية مثل سورية، في وقت لم تصبح فيه الإدارة الأميركية الجديدة عاملةً بكامل طاقتها بعد، ومواجهتها تحديات كبيرة في الداخل. وهكذا، فإن الكرة في ملعب أوروبا، وعليها تنظيم نفسها وإعداد مقترحات للتعامل بشكل متماسك مع إدارة بايدن. وعلى الصعيد الدبلوماسي، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تطوير سياسة خارجية أكثر مرونة وتفاعلية. وليس تغيير المطلب الحالي لـ"الاتحاد الأوروبي" بإجراء تصويت بالإجماع على قضايا السياسة الخارجية الحساسة بالأمر الواقعي في المستقبل المنظور. ومع ذلك، يظل بإمكان الدول الأوروبية أن تطلق بصورة منفردة تحالفاً أصغر، والذي يكون مستعداً وقادراً على قيادة استجابة القارة للأزمة التالية. وعلى غرار المجموعة الخاصة بليبيا التي شكلها الاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، قد يكون هذا التصدر فرصة فعالة للتنسيق مع واشنطن. وعلى الصعيد العسكري، يجب على المسؤولين أن يحددوا بوضوح ما يمكن أن يشكل توازناً واقعياً وفعالاً بين الأصول الأوروبية والأميركية. وكما تبين في ليبيا والساحل والشام، فإن العناصر التمكينية الأميركية ضرورية للعمليات الأوروبية، لا سيما في مجالات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع والتزود بالوقود في الجو ودعم الجسر الجوي. وسيظل هذا النوع من الدعم الأميركي ضرورياً في المستقبل القريب. ومع ذلك، ما يزال يتعين على الأوروبيين زيادة استثماراتهم العسكرية، وتعزيز استعدادهم العملياتي (على سبيل المثال، من خلال مشاركة المعلومات المكثفة والتخطيط للطوارئ)، والبحث عن طرق لحشد مواردهم بشكل أفضل (كما فعل حلف "الناتو" بشكل فعال للغاية مع أسطوله المشترك من "طائرات الإنذار المبكر والتحكم" (أواكس) عند محاربته تنظيم "داعش"). ويجب إعطاء الأولوية لهذه الأنشطة على الرغم من التداعيات الاقتصادية المستمرة لوباء "كوفيد -19". ثلاث حالات اختبار لاختبار هذا التعاون العابر للأطلسي بعد تصحيح توازنه، يجب على أوروبا اتخاذ الخطوات اللازمة لتجديد شراكتها مع واشنطن في ثلاث نقاط حساسة رئيسية خلال الأشهر القليلة المقبلة: العراق: تتمثل الأولوية الرئيسية في تحمل مسؤولية أكبر في الحرب ضد فلول "داعش". ويُعد قرار الدنمارك تولي قيادة مهمة تدريب بعثة "الناتو" في العراق وإرسال 285 فرداً عسكرياً دلالة مشجعة في هذا الصدد، لا سيما أنه من المتوقع الآن أن تتضمن المهمة بعض الأنشطة التدريبية التي نسقها سابقاً "التحالف العالمي ضد داعش". وبسبب حيادها النسبي، تستطيع القوات الأوروبية المساعدة على الحفاظ على الدعم الدولي للعراق مع احتواء خطر التصعيد بين الميليشيات المدعومة من إيران والقوات الأميركية. ومع ذلك، فإن هذه المشاركة الأوروبية المتزايدة ستتطلب بعض الدعم العسكري من الولايات المتحدة لكي تكون مستدامة وذات مصداقية (على سبيل المثال، حماية القوة، والجسر الجوي، والاستخبارات، والوصول إلى القواعد). الخليج العربي ومضيق هرمز: على الأوروبيين اقتراح تنسيق أوثق بين مبادرات الأمن البحري الراهنة، على أن يبدأ ذلك من الولايات المتحدة، وإنما يمتد أيضاً إلى اليابان والهند وأستراليا. وبغض النظر عن مدى اتساع اختيار إدارة بايدن لإعادة توجيه السياسة الأميركية تجاه إيران، فمن المفترض أن يكون لدى أوروبا مساحة سياسية أكبر وحافز أكبر للدفع نحو إجراء حوار إقليمي شامل حول الأمن البحري -لا سيما عندما لم تتردد روسيا والجهات الفاعلة الأخرى في إطلاق مبادرات منافسة. وحيث إن الأمن البحري منفصل عن القضية النووية، فقد يشكل نقطة مناسبة لإعادة بناء الثقة بين أوروبا وواشنطن، وبين حكومات الشرق الأوسط. ليبيا: يجب على المسؤولين الأوروبيين تعزيز دعمهم لحظر الأسلحة من خلال تخصيص أصول إضافية لـ"عملية إيرني"، التي تحتاج إلى سفينتين إضافيتين لتنفيذ مهمتها بالكامل. وفي المقابل، يمكن أن تكون واشنطن أكثر علنيةً في دعم هذه الجهود وتسهيل التنسيق بين الأصول الجوية الأوروبية و"القيادة الأميركية في إفريقيا" (أفريكوم)، لا سيما فيما يتعلق بإبلاغ الأمم المتحدة بانتهاكات الحظر براً أو جواً. وعلى نطاق أوسع، تنظر الولايات المتحدة في مسألة تنفيذ انسحاب عسكري أوسع نطاقاً من الشرق الأوسط من أجل التركيز على المنافسة مع الصين. ولذلك، فإن إجراء مناقشة جادة عبر الأطلسي حول هذا التحول الاستراتيجي أمر ضروري وملح، بهدف صياغة نموذج أكثر ذكاءً وتوازناً للتعاون العسكري في المنطقة. وبالنسبة لبعض الأوروبيين، ما يزال تعزيز دور دفاعي وأمني أكثر استباقية للقارة يُعد ضاراً للشراكة عبر الأطلسي. ولذلك، سيكون من الحكمة أن تشجع واشنطن صراحة اتباع نهج أوروبي أقوى وأكثر مصداقية من الناحية العسكرية تجاه الشرق الأوسط. *تشارلز ثيبوت، زميل زائر في معهد واشنطن، ودبلوماسي فرنسي مخضرم خدم في الجزائر وسورية والعراق وبلجيكا وألمانيا. *بيير موركوس، زميل زائر في "برنامج أوروبا وروسيا وأوراسيا" في "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية". عُيّن سابقاً نائباً لرئيس "قسم الشؤون الاستراتيجية والأمن السيبراني" في السلك الدبلوماسي الفرنسي، حيث ركز على قضايا الدفاع الأوروبية و"حلف شمال الأطلسي".اضافة اعلان