كلّيـــات المجتمع .. إلى أين ؟

 حين اُنشئت " دورالمعلـّمين " قبل أكثر من نصف قرن، لم يكن تعبير" كليّات المجتمع"  قد استخدم بعد في بلادنا .. ولم يظهر إلى الوجود الاّ في العام 1981، حين تمّ إنشاء عدد من الكلّيات الجامعية المتوسطة الرسمية والخاصّة، بهدف رفد سوق العمل المحليّ والخارجيّ بما يحتاجه من مهنيين وفنيّين أكفاء، ومواكبة التطوّر الكبير في التقنيات الحديثة.

اضافة اعلان

تعزّز الاهتمام بهذه الكليّـات بعد أزمة عام 1989 والشروع بتطبيق برنامج التصحيح الاقتصادي، حيث أشارت الدراسات المكثـّفة التي أجريت على واقع كليّات المجتمع بالتعاون مع البنك الدولي، إلى وجود اختلالات واعتلالات في البرامج التعليمية والتدريبية المقدّمة، وفي نوعية أعضاء هيئات التدريس وخبراتهم العمليّـة، كما في البنية الأساسية والهيكلية لهذه الكليّات، مما أدّى إلى ابتعاد الطلبة عن الالتحاق بها، وإلى ضعف مستوى خريجيها وعدم ملاءمة كفاءاتهم مع حاجات سوق العمل.

مع ذلك، فإن الإجراءات الفعليـّة لتصحيح هذا الوضع لم تبدأ إلاّ في العام 1996 بصدور قرار إنشاء " جامعة البلقاء التطبيقية " خصيصاً للإشراف على كليات المجتمع الرسميّة والخاصة، وتحديثها، وتغيير هيكليتها الإدارية والتنفيذية، وتنسيق برامجها التعليمية والتدريبية  ومتابعتها إداريّـاً وأكاديميّـاً، وتعزيز دور الصناعة في تنسيق برامجها المختلفة بما يتناسب وحاجات سوق العمل.

وبمناسبة العمل من أجل إعداد " الأجندة الوطنية "، تجدّد الاهتمام بدراسة واقع جامعة البلقاء التطبيقية وكليّات المجتمع الخاضعة لإشرافها وما يعتريها من نواقص وسلبيات، خاصة بعد أن بلغ عددها ( 53 ) ثلاثة وخمسين كليّة جامعيّة متوسطة رسمية وخاصة وعسكرية وتابعةً لوكالة الغوث الدولية، تضم حوالي 24397 طالباً وطالبةً ، و(63 ) ثلاثة وستين تخصصاً على مستوى الدبلوم ومستوى البكالوريوس (عدا عن برامج الماجستير التي تطرحها بعض الكليّـات).

في هذا السياق، عقدت في جامعة البلقاء التطبيقية منتصف آذار الماضي ورشة عمل خاصة بدراسة واقع وآفاق كليّات المجتمع، وذلك ضمن محاور "مؤتمر التعليم العالي والبحث العلمي" المقرر انعقاده في شهرايار القادم، قدّم فيها عدد من الباحثين من جامعات ومراكز مختلفة ورقة عمل نقدية مثيرة للجدل، جاءت متوافقة مع رؤية وزير التعليم العالي والبحث العلمي (السابق) الذي تحدث في بداية الورشة مشيراً إلى ضرورة إجراء عمليات جراحية لتصحيح الأوضاع. وقد ركّزت ورقة العمل هذه على " دراسة واقع كليات المجتمع وتقويم تطورها منذ انشائها، وتقديم اقتراحات استراتيجية بخصوص إعادة هيكلتها، واقتراح نموذج تنظيمي كفؤ وفعّال يخدم الحاجات الإجرائية والتطويرية لكليات المجتمع ". وأوردت الورقة كمّا كبيراً من السلبيات والثغرات والنواقص مدعّمة باحصاءات وأرقام، كما قدّمت اقتراحات للتغيير الجذري في واقع كلّيات المجتمع، كان أهمها اقتراح بتأسيس هيئة رسمية عليا للتعليم التقني، تضطلع بمهام التنظيم والإشراف والرقابة على كليّات المجتمع الرسمية والخاصة، ومنح الشهادات التي تؤهل الخريجين لممارسة المهنة بالتنسيق مع الجهات المعنيّة. ويشكل للهيئة مجلس يضم في عضويته ممثلين عن التعليم العالي والتدريب المهني والتربية والتعليم والقطاع الخاص ووزارات الصحة والصناعة والتجارة . مما يعني وقف إشراف جامعة البلقاء التطبيقية على هذه الكليات، رغم أنه الهدف الذي أنشئت من اجله الجامعة أساساً..

جاء الهجوم المعاكس على هذه الورقة مباشراً عن طريق مجلس عمداء كليات المجتمع في جامعة البلقاء التطبيقية، الذي قدّم ضمن الورشة عينها ورقة مضادّة تحت عنوان ( جامعة البلقاء التطبيقية : كليات المجتمع بين الواقع والطموح) ، تناقضت معلوماتها وحتى احصائياتها بصورة جذرية مع المعلومات والمعطيات والأرقام التي وردت في ورقة اللجنة المكلّفة. وختمت ورقة مجلس العمداء بالقول : " إن إشراف جامعة البلقاء التطبيقية على كليات المجتمع الرسمية والخاصة منها أمر أساسي وضروري لضبط استمرارية وجودة العملية التعليمية ومخرجاتها ".

الخلاف بين الورقتين المقدمتين ، لم يكن خلافاً ثانوياً في الآراء والتصوّرات ، بقدر ما كان خلافاً بشأن حقيقة الأوضاع الراهنة لكليات المجتمع ، والمعطيات والاحصائيات المتعلقة بها، فهو اذن تضادّ في المعلومات الأساسية وفي تشخيص الحالة وفي الحلول المقترحة. وإزاء ذلك كان ينبغي أولاً وقبل كل شيء التحقق من المعلومات المقدّمة من ( الطرفين ) والتي بني على أساسها التشخيص والعلاج، وإحالة الموضوع إلى لجنة " لتحرّي الحقيقة " ، ثم اعادة مناقشة الأمر للتوصل الى الحلول والتوصيات الملائمة. لكنّ ما حدث جاء منافياً للمنطق والبحث العلمي ، حيث شكّلت ادارة الورشة لجنة لصياغة التوصيات، سعت الى التوفيق بين الورقتين المتناقضتين ، فجاءت التوصيات " خلطة ترقيعية ! "، لكنها خلت من الاقتراح الذي قدمته ورقة العمل الاساسية والقاضي بتشكيل هيئة رسمية عليا بديلة للإشراف على كليات المجتمع.

لقد ساد ورشة العمل صراع معلن بين نهجين، بمعلومات متضاربة، احدهما مثّله مجلس عمداء كليات المجتمع، رأى السلبيات محدودة ويمكن إصلاحها من أجل التطوير، وقد دعا الى استمرار اشراف جامعة البلقاء التطبيقية على كليات المجتمع، والآخرمثلته اللجنة المكلّفة باعداد ورقة العمل، توصّل إلى ان الخلل عميق ويتطلب حلولا جذرية بالفعل، ودعا لإنهاء اشراف الجامعة على الكليات، وايلاء المهمة لهيئة بديلة؛ وربما اتضحت الصورة أكثر اذا علمنا أن الحكومة الأردنية كانت قد وقعت مذكرة تفاهم مع نظيرتها الألمانية في تشرين الأول الماضي  لإنشاء الجامعة الأردنية – الألمانية ، تؤسس وفق نظام الجامعات الالمانية التطبيقية،  وتدعمها الحكومتان والقطاع الخاص في البلدين. وقد نفى وزير التعليم العالي والبحث العلمي السابق في تصريح صحفي له يوم 4/4/2005 أن تكون هذه الجامعة "وريثاً أو خليفة لكليات المجتمع "، مؤكداً أن " إنشاء هذه الجامعة قد درس بعناية ، وأن مجلس الوزراء قد قرر انشاءها، وان العمل جار على وضع قانونها "،  لكنه لم يوضح ما اذا كانت جامعة البلقاء ستبقى الجهة المشرفة على الكليات الجامعية المتوسطة ام لا، وإن كان قد أشار الى ان " إنشاء جامعة الطفيلة التقنية وكذلك الجامعة الألمانية – الأردنية سيوسع قاعدة التجسير".

ومثلما حظي موضوع " التجسير" بين كليات المجتمع والتعليم الجامعي العالي بمناقشات مستفيضة في ورشة العمل، بحيث لا تصبح هذه الكليات مجرد جسر للطلبة للعبور الى التعليم العالي، فتفقد أهميتها بوصفها كليات تقنية وتطبيقية ، فإن" التجسير" الذي حدث بين وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي بإعادة دمجهما في وزارة واحدة ضمن التشكيلة الوزارية الجديدة، لا بدّ أن ينعكس على مستقبل كليات المجتمع التي ينبغي المحافظة عليها وتطويرها، مثلها مثل جامعة البلقاء التطبيقية التي قدّمت انجازات كبيرة لا يمكن انكارها، وهذا ما يجب أن يبحثه " مؤتمر التعليم العالي والبحث العلمي " في أيار القادم بعناية واهتمام.