"كل متعة حية هي وهم"

في كثير من الأحيان لا نكون كما يتوجب علينا أن نكون. تلك صفة نقص راسخة في السلوك الإنساني. بيد أننا، وفي جميع مفاصل حياتنا، نظل نبحث عن السعادة، وتظل هي متوارية خلف رغبات آنية.اضافة اعلان
في الوقت الذي نتمكن فيه من الإمساك برغبة أو أمنية بيدينا العاريتين، نكتشف أن مستوى الرضا يخبو تدريجيا حتى يتلاشى، لتتوالد رغبات أخرى نسعى لتحقيقها.
تلك هي معضلة كشفها شوبنهاور في تقصيه السعادة الإنسانية، فهو لا يعترف بالحياة مكانا لتحقيق السعادة، بل مركزا للمعاناة.
أهو سوداوي إلى مثل هذه الدرجة من اليأس، أم أنه استطاع الولوج إلى القلب الحقيقي للحياة التي تجبرنا على أن نركن إلى المعاناة وأن نتعودها ونصادقها كوجود فعلي حقيقي على مدى زمن حياتنا، بدلا من أن نلجأ إلى محاربتها ومحاولة اجتثاثها، فنكون مثل دون كيخوته كمن يحارب طواحين هواء جمادة يسجل عليها انتصارات وهمية ظنا منه أنها فرسان مدججة بالسلاح.
شوبنهاور لم تغره كل هذه الدراما، أو التراجيديا. بعبارة أكثر صحة، فهو يذهب إلى عمق المعنى لاختباره. إنه يفحص الوجود الإنساني ومعناه الكامل، ويرد الأشياء إلى أصلها الحقيقي، فيجد أن الحياة في معناها العميق هي سلسلة من الاختبارات المتتالية بين الفشل والنجاح.. ثم الفشل. لا يمكن لها أن تسير بخط مستقيم، بل بمتوالية يقدر لها أن تسم مزاجنا بما ينبغي له أن يكون اليوم وغدا.
في تقصيه لأسس السعادة الإنسانية وأركان تحققها، يكاد شوبنهاور أن يتخذ موقفا محايدا؛ بين البشري وغير ذلك من أجناس يمكن لها أن تكون. يفحص إمكانيات التحقق من خلال الرغبات الآنية أو المتدرجة أو الأصيلة، لكنه يجد أن تحقيق ذلك كله لا يؤدي إلى استتباب حالة السعادة في النفس البشرية، فهي قادرة دائما على توليد قائمة طويلة برغبات جديدة ترجو تحقيقها.
إذن، ما الحل؟
ثمة أكثر من حل يطرحه شوبنهاور. هي اقتراحات يحاول من خلالها أن يؤسس لفلسفة أخلاقية من غير أن يضطر إلى السير في اشتراطاتها. هو يقترح أن يتم القبول بـ”نصف الرضا”، فما دمنا غير قادرين على تحقيق الرضا الكامل فمن الأولى أن نسلك طريقا عملاتيا، وربما ميكافيليا، نحدد فيه المنافع أكثر مما نؤشر فيه على الخسارات. فإن كنا استطعنا أن ننجز مهمة تعليم أبنائنا، فهي رغبة أنجزت، بصرف النظر عن أنهم لم يستطيعوا الالتحاق بأي وظيفة. إنه نصف الرضا على أقل تقدير.
في الجانب الآخر، أو تقديمه للحل الثاني، يستفيد شوبنهاور من فلسفة الرواقيين الذين ظل معجبا بهم طوال حياته. إنه درس الفضيلة والزهد. من خلالهما يمكن ترويض النفس البشرية بتعويدها القبول بما لديها، والكف عن وضع قوائم الأمنيات والرغبات.
السعادة آنية، إذن. ينبغي أن نتلقفها كلما أطلت برأسها. أما الألم والمعاناة، فينبغي أن نعيشهما على مدار الساعة.
هل عالمنا هو أفضل الممكن من بين العوالم على رأي جوتفريد لايبنيز؟
شوبنهاور لا يوافق على ذلك، بل يعتبر أنه عالم مأمور بمضاعفة الألم والمعاناة، أو هو مكان للعقاب في أحسن توصيفاته!
إذن، من الممكن أن نلجأ إلى الخيار الثالث، أو الحل النهائي ونقرر أننا لا نريد الاستمرار أكثر في هذا العالم. نحن لا نحب التورط في “متعة” التفكير الأناني والانتهازي في أننا تجنبنا مصاعب تجارب الآخرين، فهو “يقع بالقرب من المصدر الحقيقي للشماتة”، وربما يؤشر بوضوح على سادية ظاهرة أو دفينة في نفوسنا.
لا نريد أن تكون السعادة، فقط، هي في تجنب اختبار المعاناة، بل نريدها سعادة حقيقية بأبعاد وملامح واضحة.
شوبنهاور لا يظنها ممكنة، فما دام يؤمن أن “كل متعة حية هي وهم”، فسيتوجب عليه دائما أن يسعى وراء أمنيات تعيش قليلا، في سبيل تحقيق وقفات قليلة مع السعادة.
هذه هي السعادة. إنها معقدة إلى هذه الدرجة!