كما الظلام؛ الضوء المبهر يمنع الرؤية

يتبادر لي تقييم فوري بعدم التصديق كلما قرأت أو سمعت عن مشروع كبير ووعود كبرى، ليس لاستحالة الفكرة والمشروعات، ولا تشاؤما، ولكن الأفكار والمشروعات التي تقدم مثل مسرحية هزيلة في محتواها وإخراجها تؤشر إلى نفسها بأنها تخفي الفساد والفشل، فإذا كان أصحابها عاجزين عن تقديم المشروع تقديما ناضجا ومقنعا كيف سيكون المشروع في الواقع؟ وإذا كان الحديث دائما أقل من الفعل، فلا بد أن المشروعات والمواقف والأفكار التي تقدم بهذا التهريج هي أقل من ذلك في حقيقتها. اضافة اعلان
هناك مدخلان للريبة في المشروعات ومظنة الفساد والفشل وربما الوهم؛ السرية والغموض، أو المبالغة والبهرجة، فما من مشروع يحاط بالسرية وعدم الوضوح الا وتحيط به الريبة وشبهة الفساد، وما من مشروع أو موقف يقدم بمبالغة في العرض سواء في التسويق والتأييد، أو المعارضة؛ إلا يجب أن يثير الريبة.
وبالطبع فإن عقلا باردا ومغامرا يقدر أن يحول الفشل إلى حالة منطقية تعززها الفلسفة والوقائع والأمثلة الصحيحة، ويجعل من الخرافات أفكارا علمية واقعية، ويقدم المواقف والانجازات الصغيرة أو الوهمية بطولات وانتصارات ونجاحات، ويحول المشاعر والرغبات إلى مبادئ وأخلاق، بل ويمكن أيضا أن يحول الرداءة والتعصب والكراهية والملوثات إلى حالة جميلة متماسكة أقوى من الصوان وأجمل من الماس، لكن ولحسن حظنا في الأردن ليس لدينا مثل هذا العقل، فلا أحد يريد المنطق والفكر الناقد والمتقدم حتى لتعزيز السياسة القائمة ودعم وجهات النظر الحكومية أو الشركاتية، فالخطاب الإعلامي لدينا عرض إغراقي يقدم فيه المسؤولون والناشطون إنجازاتهم وقصص النجاح في مؤتمرات ومقابلات صحفية وعاصفة من الأخبار في الصحف والتدوينات في شبكات التواصل بلا حاجة لأدنى مهارة في التزوير لتبدو على الأقل أنها تحظى بموافقة وإعجاب الجماهير، ودون رغبة في إقناعنا بقدر النجاح والإنجاز، وكأن الهدف الحقيقي للقصف الإعلامي ليس عقول وأفكار الناس، لكن الاستخفاف بهم، وكأن العجرفة مكافأة يحصلون عليها.
هكذا يمكن ببساطة أن نقيم الإشاعات ومواجهة الإشاعات (أظن أنهما غالبا شيء واحد) والتطرف ومواجهة التطرف، وهما أيضا يغلب عليهما أنهما شيء واحد، والموازنات الحكومية والمؤسسات والشخصيات والمحاضرات والندوات والكتب والقصص، .. كثير من التقارير والأخبار تبدو إعلانا مجانيا أو مدفوع الأجر، أو أرسلها صاحب العلاقة دون أن يلاحظ استغراقه في ذاته، أو يتساءل لدقيقة واحدة كيف يستقبل القارئ هذه المادة المنشورة؟
ما علينا! هناك حقائق صلبة وواقعية يجب ألا يؤثر فيها الإغراق الإعلامي، وكلما أشكل على الإنسان موقف يجب أن يعود إليها، تبدي الإحصاءات والاستطلاعات العالمية علاقة ارتباط واضحة بين الشعور بالسعادة وبين مستوى المعيشة وبين الرضا عن أداء الحكومة والإنجازات الفعلية في الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية. مقولة الفقراء السعداء غير موجودة على الأقل في الدراسات والاحصاءات العلمية، وأما الثقة بحكومة فاشلة فليس موجودا إلا في استطلاعات رأي مزورة أو فاشلة.
والتقدم والإصلاح يؤشر إليهما ببساطة ووضوح بالحريات والعدالة والازدهار وتحسين الحياة، ولا يمكن اعتبار حالة ما بأنها تقدم بغير هذه المؤشرات إلا بقدر اعتبار أرض جرداء حديقة غناء بدليل استطلاع رأي يؤكد أن 76 في المائة من المواطنين يقولون إنها حديقة.
والواقع أني كنت بدأت المقالة بالقصة التالية التي تبدو خاتمة، تحت جسر مستشفى الجامعة الأردنية يحدث غالبا أن أعدادا كبيرة من السيارات في المسرب اليمين عالقة لأنها تريد أن تتجه يسارا لتواصل مسارها باتجاه الجامعة، وأعدادا كبيرة في المسرب الوسط واليسار متكدسة تريد أن تذهب يمينا لتصعد الجسر.. وأعدادا كبيرة من السيارات المتجهة إلى شارع الجامعة غير قادرة على الحركة لأن الذاهبين يمينا أغلقوا الشارع في مسربين أو ثلاثة مسارب من طوابير السيارات المتجهة يمينا، هكذا فإن الذين في اليمين يريدون أن يذهبوا يسارا، والذين في اليسار يريدون أن يذهبوا إلى اليمين، والمتجهون في مسار الشارع الأصلي غير قادرين أن يذهبوا إلى مكان!