"كما تكونوا يولَََّ عليكم"!

ثمّة من يتمسك، من المفكرين والسياسيين، بأولوية التغيير السياسي على الاجتماعي والثقافي، ويرى أنّ الإصلاح يبدأ بالسلطة، على القاعدة المنسوبة لعثمان بن عفان "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". فيما يتمسّك فريق من المثقفين بقاعدة معاكسة تماماً للأولى من حيث الأولويات والاهتمامات، تتمثل في الحديث الضعيف المنسوب إلى الرسول، وهو "كما تكونوا يولّ عليكم"؛ أي أولوية الإصلاح الثقافي والمجتمعي على السياسي.اضافة اعلان
خلال نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، صعدت مدرسة إصلاحية تركّز على ما نسميه في الأدبيات الفكرية بـ"المسألة الثقافية". وتقوم رؤية هذه المدرسة على أنّ الأولوية لا بد أن تكون للإصلاح الديني لمواجهة الجمود الفقهي وتحريك المياه الراكدة لتعزيز آلة الاجتهاد والتجديد، وضرورة التركيز على تغيير المجتمع وثقافته لتطوير الحياة الاجتماعية والتعليمية والأكاديمية.
من هنا تمّ التركيز في أفكار هذه المدرسة -التي تولّى التنظير لها والترويج لأفكارها كل من محمد عبده ورشيد رضا (في نسخته السلفية العقلانية) عبر تفسير المنار ومجلة المنار- على مفتاحين رئيسين؛ الأول هو الإصلاح الديني، والثاني هو التربية والتعليم. وكان الهاجس الرئيس لروّادها الولوج إلى عصر العقلانية والتنوير والثورة الصناعية في العالم العربي.
وفي الوقت الذي كان ينظر فيه كثيرون إلى الاحتلال بوصفه السبب في كوارث العالم العربي (أي العامل الخارجي)، رأى -على النقيض من ذلك- رواد هذه المدرسة بأنّ الاحتلال-الاستعمار هو "مخرجات" أو نتيجة لآفة أكبر، تتمثل في الجهل والتخلف والجمود والفجوة الحضارية بيننا وبين الغربيين، وهي القاعدة التي اختصرها لاحقاً المفكر الجزائري المعروف مالك بن نبي بمصطلح "القابلية للاستعمار"، وقريب منها شعار جمعية العلماء المسلمين في الجزائر "إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
على الطرف الآخر من هذا التصوّر للعلاقة السببية، يقف ابن خلدون الذي يقول "الناس على دين ملوكهم". وهو بذلك يعكس الآية؛ فيجعل من واقع الأمة تبعاً وتعبيراً عن حال السلطة السياسية.
عندما انبلجت ثورات "الربيع العربي"، اهتزت كثيراً مقولات المدرسة الثقافية. إذ بالرغم من أنّ المهمة التاريخية المطلوبة لم تنجز بعد؛ على صعيد التجديد والاجتهاد الديني وإزالة الجمود الفقهي، وردم الفجوة التعليمية والرقمية والحضارية، أي التغيير الثقافي المجتمعي؛ فإنّ الشعوب العربية انتفضت على الحكام المستبدين واندفعت نحو الحرية والتحرر، وتفوقت على نفسها وأسقطت للمرة الأولى في تاريخها الطغاة عبر الثورة السلمية!
لكن، مع مرور الوقت، عادت المقاربة الثقافية لتتماسك، مع التدهور الذي اعترى المسار الديمقراطي، وعودة السلطوية وصعود "داعش"، وانفجار الاستقطابات الطائفية والدينية والأيديولوجية، ما دفع بأبناء التيار الثقافي إلى إعادة صوغ السؤال من جديد: فيما إذا كانت الشعوب العربية وصلت إلى مرحلة الاستعداد الديمقراطي أم لا؟!
في ظنّي أنّ الجواب: لا هذا ولا ذاك؛ فلا يمكن الفصل بين الاجتماعي-الثقافي والسياسي، ولا يوجد هناك شرط لأولوية أحدهما على الآخر. إذ يمكن أن يكون هناك إصلاح اجتماعي-ثقافي أولاً، يؤدي إلى اقتصادي ثانياً، فيتطور إلى صراع سياسي داخلي ينتهي إلى الصيرورة الديمقراطية، كما حدث في القرون الأخيرة في أوروبا. وقد يأتي الإصلاح الديمقراطي محفّزاً ومشجّعاً على التغيير الثقافي والمجتمعي ومطوّراً له، فهناك ديناميكيات مرتبطة بكل مجتمع وحيثياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وما ينطبق على تونس، قد لا ينطبق على مصر مثلاً.
ثم إننا بحاجة إلى إعادة قراءة الثورات العربية بصورة معمّقة أكثر، كي نفهم ما حدث فيها وما بعدها. مع ضرورة التمييز بين نتائج الثورات ومخرجات الثورة المضادة التي قادتها دول عربية وإقليمية وتواطأ معها الغرب.