كما يليق بتاريخ بعيد

زغردت الطائرة في سماء القرية.
خرج الجميع لمتابعة الطائرة التي بدأت برشق القرية بكميات كبيرة من الأوراق.
زغاريد فرح تنطلق من ألسنة النساء والصبايا، وأصوات عديدة تؤكد أن الطائرة "رايحة تذرب إسرائيل".اضافة اعلان
الشباب بدأوا بالتراكض هنا وهناك لجمع الأوراق. أما نحن الصغار، فانطلقنا راكضين باتجاه الفضاء الذي يشير إلى جهة الطائرة، ونحن نردد معا:
"شقع، بقع ريتك تقع"
"عيني فيك الله يرميك"
.. لكن الله لا يرميها لنا، بل تستمر في طيرانها، لتحلق فوق قرى أخرى، ترميها ببركات أوراقها.
في طريق العودة للبيت أعثر على ورقة ملقاة بين مجموعة من الحجارة، أحملها وأنا أتفحصها بعيني محاولا قراءة محتوياتها. لكنني لا أعرف القراءة، فتبقى حروفها مدى مجهولا لعقلي الصغير.
أغتم، وأشعر بالغيظ والحنق، فأكور الورقة بين أصابعي، وأقذف بها بعيدا.
***
في البيت يحتدم النقاش. يقول أبي إنه يتوجب على أخي إكمال دراسته، ولكن أخي، يرفض بشدة، ويخبرنا أنه قرر دخول الجيش.
وتفشل كل محاولات إقناعه بالعدول عن فكرته.
أخيرا، أتمكن من معرفة محتويات الأوراق، وينكشف اللغز، فالطائرة لم تكن ذاهبة لقصف "إسرائيل" بل كانت توزع دعوات للشباب الراغبين بالانضمام للجيش.
في الصباح الباكر يحزم أمتعته، ويرتحل باتجاه الشرق. يودعنا جميعا، وبحرارة يقبلني ويعدني بكرة كبيرة يحضرها لي في أول إجازة له.
للمرة الاولى تدخل قاموسي مصطلحات جديدة، كالغياب، والوداع.
للمرة الأولى أحاول جاهدا اعتياد غياب الأعزاء.
***
للشتاء طقوسه التي لا تنتهي. في بدايته، يكون البحث عن "الفطر" هاجسا يرافقنا في الحلم واليقظة، ويصبح النبات اللذيذ مجالا للتنافس بين الجميع. وعندما يشح، تتحول الأنظار الى غيره، وتكون "الدواحل" بدأت تغزو جيوبنا، فتتحول القرية إلى ما يشبه خلية النحل التي تتقاطع نحلاتها في تحركها الدائم.
نغادر بيوتنا في الصباح الباكر لنحفر "جورا" جديدة لـ"الدواحل". نرسم مثلثات لعبة "المور" و"الدائرة"، نجرب حظنا في" الكسب" فنخسر كثيرا، وفي أحيان قليلة يحالفنا الغش وبعض الحظ، فنكسب قليلا، ليحتل الزهو نفوسنا ونحن نستشعر ثقل جيوبنا، ونطالع وجوه الذين خانهم الحظ.
 عندما يبدأ النهار بالرحيل عن أفق القرية الغربي، نتذكر فجأة بأننا خرجنا من بيوت يجب العودة اليها، وربما يكون الجوع أحد أهم الأسباب التي تجبرنا على العودة.
نمشي في الطريق متوجسين من العقاب المنتظر جراء الغياب الطويل، ولا ننسى بالتأكيد أن نجد مكانا آمنا نخبئ فيه "دواحلنا" عن أعين الأهل المتيقظة. نخفيها بعناية، وندخل منازلنا بقلوب تحاول التماسك.
- أين كنت طوال هذه المدة؟!
سؤال يواجه الجميع، فنحاول تصنّع البراءة ونحن نجيب بغير اكتراث: كنا نلعب.
لم يحن الوقت بعد لكي ننسى تلك النظرة التي كانوا يحدجوننا بها، وسؤالهم المتحفز: "الدواحل" طبعا؟!
نستنكرها بشدة تلك النظرة، وننفي "التهمة" بسرعة، لكنّ أيديهم تمتد لتعبث بجيوبنا. يكتشفون خلوها من ذلك "السرطان"، إلا أن التهمة تأخذ صفة التوكيد عندما يكتشفون بقايا الطين تملأ جيوبنا.. ذلك الطين الذي غلف "الدواحل" من قبل.
السعيد منا هو الذي يكتفي أهله بالتوبيخ ولا يضطرون إلى اللجوء لأساليب أخرى لافهامه وجوب ترك "الدواحل" وعدم تكرار التغيب الطويل عن البيت.

[email protected]