كمّ مقلق من العصبية..!

قد يكون محتوى وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة معقولة لملاحظة نوع المزاج الاجتماعي السائد. وإذا كان هذا صحيحاً، فإن نوعية التفاعلات التي تدور حول مختلف القضايا ومن أي مستوى في هذا الفضاء تعكس درجة عالية من التشنج والعصبية في ردود الفعل. ولا يتعلق الأمر بمدى صواب أو خطأ الأفكار التي تُناقش، وإنما يتعلق باللغة المستخدمة في التفاعل والحوار، وعدد ونوع الأشخاص الذين يستخدمون لهجة عدائية ولا يعتنون مطلقاً ببناء قضية منطقية لعرض رؤاهم أو تفكيك الرأي المختلف.اضافة اعلان
البعض يستغلون أي قضية جدلية تُطرح في الفضاء الإلكتروني لإقحام قضايا أخرى ليست ذات صلة على الإطلاق. وثمة الذين يفصحون عن درجة مفزعة من الفئوية والعصبوية حيث لا يلزم ذلك. ولا تُعامل الفكرة الجدلية بما هي وتجري محاولة تفنيدها عقلياً على حدة، وإنما يُستهدَف أصحابها بالأحكام الأخلاقية الصارمة والوصم ويُصنفون ضمن فئات مرتجلة ويُهانون وتُنتهك حياتهم الشخصية. ولعل الملفت أكثر ما يكون هو ندرة المشاركين الذين يفصحون عن روح تصالحية توفيقية تتحاور – وتوجه الحوار- من منطلق تخفيف التوتر وتقليل حدة الخطاب لجهة تهدئة الرأي العام وتعزيز الصلح المجتمعي.
المفاجئ أكثر هو أن الكثير من المداخلين يخيّبون الانطباعات السابقة عنهم، حيث يتوقع المرء أنهم منفتحون ومدركون لخطورة الاستقطاب الحاد والخطاب العدائي، وميالون إلى احتواء العواطف المندفعة. وسوف تجد، للأسف، أكاديميين وناشطين وأشخاصا مؤثرين يستخدمون لغة يُفترض أنها لا تنسجم مع مواقعهم وحساسية ما يعلنونه من حيث التوتير أو نزعه. وإذا كان هؤلاء الأشخاص يقعون في فخ التعصب والاندفاع واللهجة الرافضة غير القابلة للحوار، فإن ذلك يؤشر على ما قد يكون عليه مزاج الناس العاديين الذين يتعاملون برد الفعل غير المحسوب.
في الأساس، لا يمكن إحراز تقدُّم في أي مجتمعات من دون إفساح المجال لمختلف أنواع التعبير عن الأفكار. ففي النهاية، كل فكرة قابلة للمناقشة والتفاهم حول مشتركات تجمع ولا تفرّق. وكلما زادت مساحة التابوهات قلت كمية الأفكار التي يمكن استنطاقها كمقدمة للتغيير ما يُتفق على أنه يستوجب التحسين. وبغير ذلك، سيصعب ملاحظة أي حركة إذا تعاظم نصيب "الثوابت" وقل كم ونوع الأفكار التي يقبل الناس طرحها للتداول باعتبارها حقائق مطلقة وباعتبار أصحابها أصحاب الحقيقة المطلقة الوحيدين. وفي النهاية، سوف لن يتم تفقُّد الأفكار على أساس صلاحيتها أو إصلاحها بحيث يمكن العيش بها في العالم والتفاعل معه، ما يعني الحكم بسكونية مجتمعات بينما تتحرك أخرى قدُماً، فتتحقق فكرة التخلف.
إذا ما كان السِّلم المجتمعي هدفاً في أي مكان، فيجب أن تُناقش فيه أي أفكار من منطلق الموقف المتعاطف غير العدائي في الأساس، كما ينبغي أن يتعامل أفراد الأسرة الواحدة. وسوف تعني التصنيفات الحادة وعدم التماس عذر للآخر وعدم معالجة فكرته بالمنطق والتشكيك في نيته من دون محاولة استمالته أولاً، أن يتم استعداؤه وصناعة فرز كان يمكن تلافيه. ومن المرعب تصوُّر ما قد يسفر عنه شيوع التعصب والمواقف الحادة، في ما يتحول في الممارسة إلى تبرير عقاب الآخر بقسوة – أو أكثر- إذا توفرت الفرصة. وكان هذا مقتل المجتمعات التي انطوت على ما قد تُسمى "نية انتقام" كامنة، حيث أطلقت أقل اضطرابات غضباً أفصح عن نفسه بطرق قاتلة.
تقترح مناخات وسائل التوصل – وما هو أوسع منها- على الناس التزام الصمت، حيث لا تسامح مع "الخطأ" الذي قد ينطوي عليه الحديث في أي لحظة (حيث ينبغي أن يكون الحكم بـ"الخطأ" و"الصواب" نسبياً في الأساس). وكلما زادت مساحة التابوهات زاد احتمال "الخطأ" وقلت العناوين الجادة التي يمكن التحدث حولها بلا خوف من زلات اللسان. وفي الأساس، ليس الصمتُ خياراً عندما يكون الأمل هو سماع أفكار جديدة وطرحها للنقاش حيث يجري استنطاقها ونبذ الفاسد واعتناق الصالح بعد حوار مستنير حسن النية.
هذه هي الطريقة الوحيدة لأي تغيير. وعكس ذلك مظهر لانخفاض منسوب الثقة المجتمعية أفقياً وعمودياً، بحيث يخاف الواحد من الآخر ويتوقع أنه يتصيد أخطاءه. وهذه وصفة للانفصال والخوف والشك. وعندئذٍ بالتحيد، ينبغي أن تكون هناك نسبة وازنة ومتعاظمة من الذين يضبطون ويُهدئون ويُقرّبون ويقترحون أرضيات وسطى، ولا يخضعون لجذب العصبية هم أنفسهم. وبعكس ذلك سيكون المشهد مقلقاً جداً، على الأقل.