"كورن فليكس" واختناقات

يتصدّرُ الزيت والزعتر، على الدوام، مائدة إفطاري الصباحي. تليهما، بالطبع، قطع الجبنُ الأبيض المسبوك بأياد ماهرة، مع "مسكة عربيّة"، وحبّة البَرَكة (القزحة) السوداء. ثمّ تحضرُ كُرات اللبن الدائريّ المصنوعة من حليب الماعز، المُغمّسة بزيت زيتون أخضر، نبتَ في تُربة حمراء ومن ماء جادت السماء به على أراض مُباركة. 

اضافة اعلان

وتلك مائدة عبقريّة بالمعايير الاقتصادية كافة؛ في التحويل والتصميم، وفي الكُلف ومُستقبل التصدير. ولا أملك إحصاءات دقيقة حول عدد ساعات العمل المنزليّة التي تقضيها سيّدات الوطن في صناعة المنتجات الغذائيّة من داخل البيوت، لكني أجزم أنه مجهود يستغرقُ نصف أعمارهن، وأنّ لتلك الساعات في الواقع حسبة خاصّة من الناتج القوميّ والإبداعي للبلاد. وبجُهود المُصنّعين والمُصمّمين والتُجّار الموصولة بعمليّة التصدير والاستيراد، نُدرك أن مدينة مثل عجلون ستكون في يوم قادرة، مثل أي قرية فرنسيّة صغيرة، على تصدير أطنان الجبن واللبن والزبد إلى أرجاء المعمورة، كما كان لفتاة نحيلة اسمها "كوكو" أن تقوم بتصدير حقائب اليد للعالم أجمع.      

إنّها أيضا المائدة ذاتها التي أعانتني على فهم  لُغز الصناعات من العالم الآخر! وعن شكل وماهيّة عقل "ابن الداهية" الذي بعد أن نسي حبوب الذرة لتنشفَ، قام بـ"دحلها" بشكل رقائق، ثمّ تحميصها بعد أن نثر عليها حفنة من السُكّر! وليبيع كلّ  ذلك في علب أنيقة لمُنتج اسمه "كورن فليكس". 

وتجلسُ العُلبة ذاتها بأريحيّة اليوم على الطاولة، ضمن منظومة اقتصاديّة مُذهلة في تناسقها، وتختزلُ نظاما حركيّا دقيقا من الناس ومن العمليّات المُعتمدة على بعضها بعضا! فحبّة الذرة تلك انتقلت من المُزارع إلى المصنع، ثمّ لوكلاء وموزّعين ومصدّرين حتّى وطأت رصيف ميناء العقبة هنا في الأردن; ثمّ عبرَ وكلاء ومُورّدين ومُوزّعين مَحلّيين، ليصل الصندوق أخيرا إلى أرفف متجر الحيّ القريب في ضاحيتي العمّانية. وعندما أقومُ بشراء العُلبة ببضعة دنانير، فتلك من حيث المبدأ ثروة تتوزّع على كلّ أولئك! 

وعليه، فأن تصل منتجات أردنيّة إلى بلاد العالم، أو أن تزين منتجات العالم موائدنا عبر حركة مرورية منتظمة للبضائع، هو أكبر من جهد وظيفيّ تُشرف عليه الدولة. وهذا لأنّه يختزلُ منظومة متكاملة من فكر الإبداع والحرية والتنوع، وحق الاختيار! وقد شهد العام 2015 كل أنواع الاختناقات في الحركة المرورية للبضائع بأنواعها كافة، ولأسباب عديدة! كما سجّل العام نتائج سيئّة على حركة التجارة والتجّار بداية بإضراب العُمال، أو في تفاصيل التعقيدات الإجرائيّة على أكثر من مستوى، ناهيك عن انطباعات دولية وإداريّة غيرها. و"المينا" سيظلّ امتحان الدولة الأول اللازم لتنشيط البضائع الأردنية وعمليات التصدير من الداخل. فدعوا البضائع تمرّ.

*خبيرة في قطاع الاتصالات