"كوستا برافا"

رشا سلامة* يصادفني، عبر منصة نتفلكس، فيلم “كوستا برافا لبنان”. للوهلة الأولى ظننت الأمر مجازياً؛ إذ لم أعلم من قبل أن ثمة منطقة في لبنان تحمل اسم الساحل الكتلاني الشهير “كوستا برافا”. إيقاع الفيلم، الذي أخرجته اللبنانية مونيا عقل، كان مفرطاً في الملل، وكانت الإضاءة فيه ثقيلة على العين وتبعث على الضجر، على الأقل بالنسبة لي. فكرة الفيلم بالغة الأهمية عن التغوّل على المناطق الحرجية في لبنان؛ إذ تلجأ عائلة صغيرة للأحراش؛ لتنجو من بيروت المكتظة والتي تعاني من نسبة تلوث عالية، فلا يلبث سماسرة الأوطان يلحقون بهم، منشئين مكباً للنفايات في تلك المنطقة الوادعة. قدرات الممثلين عالية وتحديدا اللبنانية نادين لبكي والفلسطيني صالح بكري. وكنت طوال الفيلم، ثقيل الظل رغم أهمية فكرته وبراعة ممثليه، أسرح بعيداً نحو “كوستا برافا” في شمال شرق كتالونيا. الساحل الطويل الذي يمتد نحو الشمال من برشلونة، والذي تارة يكون رملياً وتارة صخرياً، بمياه بالغة النقاء. ذات صباح صيفي في 2021، كان ذهني مشغولاً. أمشي في برشلونة منذ الصباح الباكر وفي رأسي دوامة أفكار ومسؤوليات. دراستي العليا بكل ما تحفل به من قلق وتفاصيل، وبدء تدريسي للفصل الصيفي لطلبة في الأردن، عن بُعد، وكان هذا التدريس عبر الـ”أون لاين” سيبدأ بعد ظُهر ذلك اليوم. قلبي، سريع النبض، منشغل بهموم أحبتي وصحّتهم وأحوال الدنيا معهم بين شرق الأرض وغربها. فكرت أنه عليّ الذهاب يومها إلى بلدة كاداكاس. المرتبطة بطفولة الفنان سلفادور دالي. كنت ناقمة عليه حين زرت متحفه في بلدة فيغيرس قبل اندلاع الكورونا في إسبانيا العام 2020؛ حين وجدت صالة كاملة في متحفه تعج برسومات تحتفي بقيام كيان الاحتلال. أوغلت في القراءة عن تناقضات دالي وجنونه، ذهبت للمدن الكتلانية الأخرى المرتبطة به مثل جيرونا، وتبقّت كاداكاس لم أرها وأعاين آثار تجربته الفنية فيها. بثقة مفرطة، إني أمشي في المسار الصحيح، ركبت القطار الخطأ. لم أدرك الأمر في البداية، ونمت، أنا من يصعب نومه عادة في وسائل النقل نمت يومها، واستيقظت بعد قرابة ساعتين لأكتشف أني لست في مسار القطار الذاهب لكاداكاس. بدأ قلبي يخفق بقوة؛ لأن موعد المحاضرة الأولى عن بُعد قد اقترب. نزلت في أول محطة بعد استيقاظي وإدراكي خطأ الوجهة. كان همي الأكبر الجلوس في مكان ما، أي مكان؛ لأبدأ المحاضرة مع الطلبة الذين سيكونون حتماً في الانتظار. هذا ما ظننته دوماً، لكن أحداً لا ينتظر في الحقيقة. نزلت من القطار ووجدت قبالتي ساحلاً لا أذكر أني رأيت بغزارة رماله. كان غريب الملامح. رمل أبيض كثيف مرتفع عن البحر قرابة مترين، عنيد يحافظ على علوّه رغم ملمسه الناعم. أي حتى تغمس قدميك في الماء عليك القفزعنه؛ لتصل الموج الهادر أدنى منك. وسط دهشتي من هذا الجزء الساحر من “كوستا برافا”، حاولت فتح الرابط الذي يحيل للمحاضرة. لم أتمكن. راسلت المسؤولة، بصعوبة؛ إذ شبكة الاتصالات في ذلك الجزء الكتلاني لم تكن قوية بما يكفي، فقالت لا بأس كثيراً ما يحدث خلل فني خصوصاً في أول الفصل، وطمأنتني قائلة إنها المحاضرة الأولى وقلما يرتادها أحد. ثقل انزاح عن كتفي. قمت للتمشي وأذكر أني، كما العادة، مشيت مسافات طويلة، رغم ثقل الخطوة على الرمل الكثيف. وجدت مقهى في الهواء الطلق يرتاده مستجمّون أتوا للسباحة. بصعوبة، وافقَت النادلة على منحي طاولة؛ لأني بمفردي، ما يعني أنها ستضحي بعدد من المرتادين قد يجلسون حول هذه الطاولة بدلاً من واحد. تناولت من مطبخها الكتلاني الأصيل “تاباس”. الكتلانيون يتفنّنون في هذه الأطباق الصغيرة ويعكفون عليها كما لو كانت وليمة عامرة. “باتاتس برافاس” البطاطا المقلية على شكل مكعبات وفوقها صلصة غنية التوابل، ومعها “أثايتونه” الزيتون الإسباني، و”باكلاو” كرات السمك المهروس والمقلي، وحلقات الكلماري المقلية، و”بان كون توماتيه” شرائح الخبز بصلصة الطماطم. كلما تناولت أطباق الـ”تاباس” في إسبانيا كنت أضحك في سري متخيلة ماذا لو أتانا ضيف في البلاد العربية وقدمنا له هذه الأطباق كهويّة للمكان. أظن أننا نشأنا على ثقافة حشو البطن وإسكات الجوع أكثر من تناول الطعام بمزاج وتجلّ. طوال الأعوام الثلاثة في إسبانيا، كنت أتناول الـ”تاباس” ثم أهرع للمطعم العربي لأتناول ما يشبه طبخ أمي! حين ارتفع الموج أكثر، وغرقت ساقيّ بالرمل الذي قفزت عنه نحو الماء، وتذكرت لوهلة أني تائهة، وأني لا أعرف موقعي بالضبط، وأني في نقطة ما منسيّة على شاطئ “كوستا برافا” ومن دون شبكة اتصال قوية هناك، بحثت عن سكة القطار التي نزلت منها، وأتيتها من الجهة المعاكسة عبر نفق أرضي مرصوف، جازمة أن برشلونة ستكون في ذلك الاتجاه الذي أتيت منه. صح ظني هذه المرة، ووصلت برشلونة بعد ثلاث ساعات تقريباً، كنت أتذكر خلالها كم من مرة كانت وجهة ما نصب عيني، ليصحبني القدر نحو وجهة أخرى لم أحسب لها حساباً. راقت لي هذه الحقيقة أم لم ترق، أراحت قلبي أم سارعت نبضه أكثر، هذه هي حياتي: وجهات جلّها لم يكن في البال! *صحافية وأستاذة جامعية في الإعلاماضافة اعلان