كيري-لافروف و"سايكس-بيكو"

يشهد هذا الأسبوع ذكرى مرور مائة عام على الاتفاق التاريخي الشهير بين وزير الخارجية البريطاني مارك سايكس ونظيره الفرنسي فرانسوا جورج بيكو، الذي انتهى بتقسيم المشرق العربي بين الإنجليز والفرنسيين. وهو الاتفاق السري الذي سبق الثورة العربية الكبرى، وتم بموافقة روسيا آنذاك، ولم يتم الكشف عنه إلا بعد الثورة الشيوعية من قبل إحدى الصحف الروسية. اضافة اعلان
وإذ تشكل هذه الذكرى خبرة قاسية للعرب، أجهضت مشروعهم بالنهوض بعد الانفكاك عن الهيمنة التركية؛ فإنها تأتي وسط تسريبات إعلامية وتكهنات تتحدث عن مشروع تقسيم جديد ينهي الحقبة التاريخية التي رسمت خرائط المنطقة وتفاعلاتها السياسية والاستراتيجية على مدى قرن كامل.
الذين يتحدثون عن اتفاقية "سايكس-بيكو" جديدة، أي مشروع تقسيم آخر، هم من مختلف التيارات والتحالفات، من مثقفين وخبراء مستقلين وغير مستقلين وأكاديميين، وآخرون من مؤيدي تحالف الأتراك وبعض دول الخليج، كما لم يتوان أنصار تحالف إيران عن ترديد هذه الأفكار. وحتى تنظيم "داعش" كان نظم واحدة من أكبر حملاته الدعائية تحت عنوان "سايكس-بيكو انتهت". وفي خلفية المشهد حالة من الغموض والفوضى الإقليمية، وتبادل الألعاب السياسية والاستراتيجية والأدوار بين الفرقاء. فيما الحديث المتكرر عن تفاهمات غير معلنة بين الكبار، يجعل قصة الخطة السرية حاضرة وتبرز إلى الواجهة من جديد.
وصلت ذروة هذه التداعيات والتكهنات مع تنامي التفاهمات الأميركية-الروسية حول ملفات المنطقة العربية، وتحديدا التفاهمات الغامضة على إدارة الصراع حول سورية وربما حله، وصولا إلى فكرة "سورية الفيدرالية" التي أشار إليها كل من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ووزير الخارجية الأميركي جون كيري، بطريقة أو أخرى. وعلى الرغم من الإشارات المتكررة التي تقول إن سورية لن تعود إلى ما قبل العام 2011، إضافة إلى الأفكار التي تبرر تلك الفكرة على أساس ادعاء أن الحقائق الديمغرافية والسياسية والاستراتيجية الراهنة تقود إلى حل الفيدرالية، إلا أن مخطط الفيدرالية عمليا هو مخطط تقسيم سورية. وآخر تلك الافكار ما نسب إلى المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا الذي لم يستبعد أن تناقش مفاوضات جنيف المقبلة مسألة الفيدرالية السورية.
بعد مائة عام على تقسيم ما كان يعرف ببلاد الهلال الخصيب بين القوى العظمى، يبدو المشهد وكأن لا شيء يختلف سوى تغيير أسماء الدول والشخوص؛ من بريطانيا العظمى وفرنسا إلى الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية؛ ومن "سايكس-بيكو" إلى "كيري-لافروف".
قبل مائة عام، تجرع العرب واحدة من أقسى الخدع في تاريخهم الحديث والمعاصر. ومنذ ذلك الزمن نمت فكرة المؤامرة في الوعي العربي المعاصر، والتي ارتبطت بالغرب أولا وأخيرا. وقادت حقب الاستعمار والهيمنة وسياسات دعم النظم الفاسدة إلى ترسخ هذه الفكرة. في المقابل، حاول عرب كثر نقدها ونفي الأسس التي ترتكز إليها؛ إلا أنه في كل مرة يعتقد أن الوعي العربي بدأ يشفى من فكرة المؤامرة، تبرز وقائع جديدة تعيدنا للذكريات الأولى.