كيف تتعايش أوروبا مع الصين؟

321
321

كارل بيلت*

ستوكهولم- في عصر يشهد توترات متصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، هل يظل الاتحاد الأوروبي محتفظا بالحيز الكافي للمناورة في ملاحقة مصالحه الخاصة؟ هذا سؤال أساسي يتعين على صناع السياسات في الاتحاد الأوروبي أن يجيبوا عليه في السنوات المقبلة.اضافة اعلان
لقد تحول الصراع الصيني الأميركي بالفعل إلى قضية مركزية في فترة التحضير للانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر)، لأن إدارة الرئيس دونالد ترامب قررت بوضوح أن تقريع الصين من الوسائل الكفيلة بتحويل الانتباه بعيدا عن إخفاقاتها. ولكن حتى لو خسر ترمب أمام منافسه المفترض جو بايدن، فسوف تستمر المواجهة الثنائية في التصاعد. فمن الواضح أن البحث بنشاط عن طرق لتقليص أو وقف أو حتى عكس اتجاه صعود الصين الجيوسياسي مسعى ثنائي الحزبية داخل أروقة المؤسسة السياسية ومؤسسة السياسة الخارجية في الولايات المتحدة.
ولكن حتى مع انتهاج أكثر السياسات عدوانية، من المشكوك فيه أن تتمكن الولايات المتحدة ــ أو أي طرف آخر ــ من تحقيق هذا الهدف. يبلغ نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي في الصين (معدلا تبعا لتعادل القوة الشرائية) نحو ثلث نظيره في الولايات المتحدة أو أغلب الدول الأوروبية. ولكن من حيث الحجم الإجمالي لاقتصاد الصين، فإنها تلحق بسرعة بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
لا أحد يستطيع أن يعرف على وجه اليقين كيف قد تتكشف فصول القصة الاقتصادية في الصين في العقود القادمة؛ لكن الاتجاهات الحالية تشير إلى أنها ستستمر في النمو بسرعة أكبر كثيرا من الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي. وإذا تمكنت من سد حتى نصف فجوة نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي مع تايوان، فإن اقتصادها سينمو بهذا (بفضل عدد سكانها) إلى ضعف حجم الاقتصاد في الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي.
على الرغم من جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد 19)، يتوقع كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أن يسجل اقتصاد الصين نموا إيجابيا هذا العام. في الوقت ذاته، تشهد الولايات المتحدة وأوروبا انكماشا عميقا، بلا نهاية قريبة في الأفق. النتيجة هي أن الجائحة ستزيد من الوزن النسبي للصين في الاقتصاد العالمي.
من المؤكد أن الصين، مع الشيخوخة السكانية، وقطاع الدولة الضخم الخاسر، والديون المتنامية، ستواجه رياحا اقتصادية عكسية في السنوات القادمة، خاصة إذا ظل الإصلاح البنيوي يحتل مرتبة متدنية على قائمة أولويات الرئيس الصيني شي جين بينج. الواقع أن النظام السياسي في الصين غير ملائم على الإطلاق لإدارة مجتمع حديث. قبل وفاته متأثرا بمرض فيروس كورونا 2019، أشار لي وِن ليانج، الطبيب المقيم في ووهان الذي أُسـكِـتَ بعد محاولته دق ناقوس الخطر بشأن فاشية فيروس كورونا، إلى أن "المجتمع السليم لا يجب أن يكون له صوت واحد فقط". وبهذا المعيار الذي لا يرقى إليه شك، نستطيع أن نجزم بأن النظام السياسي الصيني معتل صحيا حقا. وسوف يظل عُـرضة لكل أشكال الأمراض والعلل الرهيبة وغير المتوقعة.
مع ذلك، لا أحد يستطيع أن ينكر أن الصين ستشكل جزءا متزايد الأهمية من الاقتصاد العالمي في السنوات المقبلة. وسوف يجلب حضورها المتزايد الاتساع تحديات جديدة للجميع، وخاصة الأوروبيين. ولأن أوروبا لم تعد قادرة على الاعتماد على الولايات المتحدة كشريك يمكنها التعويل عليه ومشابه لها في الميول والأفكار، فسوف تضطر إلى تطوير نهجها.
يجب أن تقوم الاستراتيجية الأوروبية الجديدة في التعامل مع الصين على ركيزتين. فمن ناحية، من الممكن ــ بل من الواجب ــ أن يستمر الانخراط في القضايا ذات الاهتمام المشترك. فالصين تمثل ما يقرب من 30 % من الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري الكوكبي. ولأن أحد أهداف السياسة الرئيسية في أوروبا يتلخص في ملاحقة التحول إلى الطاقة الخضراء ــ تحقيق صافي الانبعاثات صِفر بحلول عام 2050 ــ فإن رفض الحوار مع الصين ليس بالخيار الوارد.
يصدق ذات القول على قضايا فوق وطنية أخرى مثل التجارة والصحة العامة. إن كلا من أوروبا والصين لديها مصلحة قوية في الحفاظ على النظام التجاري العالمي، ويتطلب هذا التعاون لإصلاح منظمة التجارة العالمية. ومن المؤكد أن انسحاب الولايات المتحدة من منظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة العالمية تصرف هَـدَّام ولن يأتي إلا بنتائج عكسية، كما يفرض عبئا أكبر على الاتحاد الأوروبي لإصلاح وتعزيز الهيئات المتعددة الأطراف الضرورية. أظهرت جمعية الصحة العالمية الأخيرة التي عقدتها منظمة الصحة العالمية أن الاتحاد الأوروبي قادر حقا على الاضطلاع بدور مهم وبَـنَّـاء في هذا الصدد، حتى على الرغم من استمرار الولايات المتحدة في تهميش ذاتها.
من ناحية أخرى، ينظر الاتحاد الأوروبي على نحو متزايد إلى الصين على أنها "منافس جهازي" من المحتم أن تتعارض قيمه ومصالحه مع قيم ومصالح الاتحاد. وهناك احتياج واضح إلى آليات أكثر قوة لضبط الاستثمار الصيني في القطاعات الأوروبية الحساسة، وضمان المنافسة العادلة بين الشركات الأوروبية والشركات الصينية التي تدعمها الدولة. وعبر مجموعة من القضايا، سيحتاج صناع السياسات والدبلوماسيون الأوروبيون إلى بذل المزيد من الجهد لضمان وفاء الصين بالالتزامات التي تعهدت بها.
لا شك أن الرأي العام الأوروبي بدأ يتأرجح ضد الصين، وأن هذا سيخلف تأثيرا على السياسات. وفي ظل الممارسات القمعية التي يزاولها النظام الصيني ضد هونج كونج، وتهديده لتايوان، واستمراره في قمع شينجيانج وغيرها من المناطق، سيكون من الأصعب كثيرا على دول مثل المجر أن تمنع الإجراءات التي قد يتخذها الاتحاد الأوروبي في الدفاع عن حقوق الإنسان وسيادة القانون في الصين.
تتمثل مهمة الاتحاد الأوروبي الآن في إيجاد التوازن بين هاتين الركيزتين. ورغم أن أوروبا ستقف موحدة مع الولايات المتحدة في التعامل مع العديد من القضايا، فإنها لن تتخلى عن مشاركتها مع الصين في تناول القضايا ذات الاهتمام المتبادل. ورغم أن الأوروبيين يجب أن يتحروا الواقعية في معالجة قدرة الصين المتزايدة على إلقاء ثِـقَـلِها على الساحة العالمية، فإن قادة الصين يحسنون صنعا بتحري الواقعية هم أيضا. فمن الواضح أن الحملة القمعية العنيفة في هونج كونج من شأنها أن تجبر الاتحاد الأوروبي على اتخاذ موقف أكثر تشددا عند وضع نهجه الاستراتيجي الجديد.

*رئيس وزراء السويد ووزير خارجيتها سابقا.
*خاص بـ"الغد" بالتعاون مع بروجيكت سنديكيت.