كيف تخيل الفلاسفة القدماء نهاية العالم؟

‏"دمار"، (1836، تفصيل)، من سلسلة توماس كول ‏‏"مسار الإمبراطورية" – (المصدر)
‏"دمار"، (1836، تفصيل)، من سلسلة توماس كول ‏‏"مسار الإمبراطورية" – (المصدر)
كريستوفر ستار* – (مجلة أيون) 18/3/2023 ترجمة: علاء الدين أبو زينة ما التهديدات الرئيسية التي تتوجه لبقاء‏‏ البشرية؟ أي كوارث هي التي تنتظرنا في الأمام؟ قد تبدو هذه أسئلة حداثية بطريقة فريدة، يطرحها المفكرون والباحثون المعاصرون في مجال الخطر الوجودي المتنامي على الجنس البشري. ومع ذلك، قبل آلاف السنين، كان الفلاسفة اليونانيون والرومان القدماء يعكفون مسبقًا على صياغة مثل هذه الأسئلة ومناقشتها. وفي حين أن لدى هؤلاء المفكرين طرقًا مختلفة جذريًا للنظر إلى العالم ومكان المرء فيه، فقد اتفقوا جميعًا على أن شكلاً من أشكال كارثة نهاية العالم ينتظر البشر في المستقبل.‏ ‏ كيف يمكننا أن نفسر هذا الاهتمام؟ أحد الأسباب الرئيسية هو أن الفلاسفة القدماء أدركوا أن نهاية العالم هي شيء “من الجيد التفكير فيه”. فروايات نهاية العالم تسمح بشكل من أشكال السفر عبر الزمن. وتقدم رؤية للمستقبل بينما تتيح لنا مشاهدة الكارثة المقبلة بأمان. وتكشف القصص التي نرويها عن نهاية العالم الكثير عن نظرتنا الحالية للعالم وكيف شكل الماضي والحاضر مسارنا الحالي. وعلى عكس التقليد التوراتي، الذي يرى نهاية العالم يومًا للغضب الإلهي والدينونة الذي يخلَّص فيه المختارون ويُلعن فيه الباقون، رأى الفلاسفة اليونانيون والرومان القدماء نهاية العالم كعملية طبيعية تكون جزءًا من الأداء المنتظم للكون. وقد افترضوا إلى حد كبير أن التطور البشري محدود، وأن البشرية والكارثة العالمية مرتبطتان برباط لا ينفصم. لقد فرضت الطبيعة حدودًا ثابتة لا ترحم للتطور والنمو البشريين. وتصبح مثل هذه الرسائل ملحة بشكل متزايد اليوم.‏ في العالم القديم، كما هو الحال اليوم، كانت هناك العديد من السيناريوهات المختلفة للكيفية التي ربما ينتهي بها العالم، وكانت هذه التصورات في كثير من الأحيان تشتبك في حوار نقدي مع بعضها بعضا، وكذلك مع القصص الأبكر عن الدمار بالنار والماء. في ‏‏القرن السادس قبل الميلاد‏‏، ربما افترض أناكسيماندر (1) Anaximander في وقت مبكر أن كل مياه الأرض سوف تجف في النهاية، تاركة عالمًا جافًا وقاحلاً بلا حياة. وعلى النقيض من ذلك، جادل خليفته، زينوفانيس (2) Xenophanes، بأن العالم سوف يدمَّر فعليًا بالمياه. (حتى أنه قدم أدلة على أنه كان هناك بالفعل طوفان كبير، مشيرًا إلى أنه تم العثور على أصداف بحرية على أرض بعيدة عن الماء). وكان في فلسفة أفلاطون، من ‏‏منتصف القرن الرابع قبل الميلاد،‏‏ حيث نجد بعضًا من المحاولات المستمرة الأولى لتصوُّر سيناريوهات متعددة لنهاية العالم: الحرائق، الفيضانات، الزلازل والمرض. يكتب أفلاطون في محاورة ‏تيماوُس‏‏: “كانت هناك، وستكون هناك الكثير من حوادث الدمار للبشر”. وبدلاً من فهم التاريخ على أنه يتجه نحو نهاية غائية نهائية، يرى أفلاطون أن النمو البشري تحدده باستمرار أشكال مختلفة من الكوارث العالمية، وتشكل هذه الروايات بعضًا من أكثر أفكاره الفلسفية إثارة للاهتمام. في حواراته “‏‏تيماوس”‏‏ ‏‏و”كريتياس”‏‏، استخدم أفلاطون هذه النظرية ليروي القصة، على الأرجح من اختراعه الخاص، عن دمار أتلانتس. كما أنه تبنى شيئًا من موقف بيئي مبكر عندما وصف التغييرات التي حدثت للبيئة الطبيعية حول أثينا نتيجة لهذه الكوارث الدورية. وفي محاورته الأخيرة، “‏‏القوانين”‏‏، يتخيل أفلاطون كيف تشكل هذه الكوارث الأرضية المتكررة تطور الحياة السياسية.‏ ‏أما تلميذ أفلاطون، أرسطو، فكان إشكاليًا. مثل معلمه، يفترض أرسطو أن تطور البشرية دوري. وحسب رؤيته، يكتشف البشر باستمرار، ويطورون الأفكار والتقنيات نفسها، ويخسرونها، ثم يعيدون اكتشافها. ومع ذلك، في أعماله الموجودة، لا يفسر أرسطو أسباب هذه الدورات. ويقدم الكُتاب اللاحقون أدلة على أن أرسطو، في حواراته المفقودة الآن، اتبع نظرية أفلاطون عن الكوارث العالمية الدورية، لكنه ربما يكون قد ‏‏رفضها لاحقًا.‏ ‏ كثيرًا ما يقال إن الفكر اليوناني القديم تصور الزمن على أنه دوري. ويبدو أن وجهات نظر أفلاطون وأرسطو حول التطور المتكرر للمجتمع تؤكد هذه النقطة، على الأقل من منظور إنساني: العالم لا يدمر أبدًا، ويستمر إلى أجل غير مسمى. لكن الدورية ليست دائمًا أفضل طريقة لتعريف الفكر الفلسفي القديم. فقد نظَّر ديموقريطس والأبيقوريون، على سبيل المثال، لنهاية للعالم بالمعنى الكامل. وفي حين جادل كلاهما بأن هناك عوالم متعددة مبنية من الذرات، وبأن جميع العوالم تتجه نحو نهاية نهائية، فقد افترضا طرقًا مختلفة للتدمير. ويقال إن ديموقريطس، وهو معاصر أصغر لسقراط، ادعى أن العوالم تُدمر عندما يصطدم عالم بآخر. ويتنبأ هذا السيناريو بالوعي المعاصر بمخاطر ضربات الكويكبات وغيرها من “الأجسام القريبة من الأرض”. وجادل أبيقور، الذي أقام حديقته الفلسفية في أثينا حوالي ال‏‏عام 307 قبل الميلاد،‏‏ بأن كل عالم يموت عندما يتبدد في النهاية وينتشر في الفراغ. ومرة أخرى، إذا وضعنا الأمور في سياق المخاطر الحديثة، ربما يكون لهذه الفكرة صدى مع فقدان الطبقة الجوية الواقية. وقد أيد الرواقيون، الذين كانوا المنافسين الفلسفيين العظماء للأبيقوريين خلال الفترتين الهلنستية والرومانية، وجهة نظر قوية للزمن الدوري والعودة المتكررة الأبدية. وجادلوا لصالح نظرية التدمير الدوري وولادة العالم بالنار، التي أطلقوا عليها اسم “انتهاء الدورة” ‏‏ekpyrosis‏‏. (ومع ذلك، رفض بعض الرواقيين هذه النظرية).‏ يكمن ‏‏التقليد الفلسفي اليوناني والروماني القديم‏‏ خلف العديد من الرؤى المعاصرة للمستقبل. والسيناريوهات الحديثة الشائعة التي ترى البشرية وهي تحاول إعادة بناء نفسها بعد كارثة عالمية، مثل رواية كورماك مكارثي “‏‏الطريق” The Road‏ (2006)، أو المسلسل التلفزيوني “الموتى السائرون” ‏‏The Walking Dead‏‏ (22-2010)، مدينة لنظريات أفلاطون أكثر مما تدين لنهاية العالم التوراتية. ويعتقد أفلاطون أن هناك ناجين سيتبقون بعد كارثة عالمية. وفي “‏‏القوانين”‏‏، يقدم أفلاطون سردًا لكيفية قيام الناجين من كارثة بإعادة بناء المجتمع ببطء: على عكس الرؤى الحديثة لما بعد نهاية العالم عن الندرة والصراع، يفترض أفلاطون أن “الحرب الأهلية والصراع” ستختفيان، وأن الناس “سيتصرفون بلطف ويتقبلون بعضهم بعضا جيدًا”. وبالمثل، قد يبدو أن الرؤى المعاصرة لكارثة دنيوية قائمة على الصدفة بدلاً من خطة إلهية هي فكرة حديثة تمامًا، كما ‏‏جادل‏‏ بعض العلماء مؤخرًا. ومع ذلك، حتى هذا السيناريو له سابقة مهمة، ولو أنه يتم تجاهلها، في الفلسفة القديمة. لم يكن الأبيقوريون ملحدين، لكنهم اعتقدوا فعليًا بأن الآلهة لا تلعب أي دور في ‏‏تنظيم‏‏ العالم. وقد تُرك خلق العوالم وتدميرها للانحراف العشوائي للذرات عبر الفراغ. وفي هذا النظام، حتى نهاية العالم يمكن أن تكون حدثًا مفاجئاً ووليدة صدفة. وبينما يكتب في الخمسينيات قبل الميلاد، يؤكد الأبيقوري الروماني لوكريتيوس هذه النقطة في قصيدته “‏‏عن طبيعة الكون”‏‏ (‏‏De rerum natura‏‏):‏ ‏”ربما يمنح الحدث نفسه مصداقية لكلماتي، وسرعان ما ترى كل شيء يهتز بقوة بالزلازل. آمل بأن يبقي “الحظ”، قائد الدفة، هذا بعيدًا عنا، وأن يقنعك العقل، بدلاً من الحدث، بأن كل شيء يمكن أن ينسحق ويسقط باصطدام مرعب”.‏ ‏ ومع ذلك، فإن التكهنات الفلسفية القديمة حول نهاية العالم لم تكن معنية فقط بمثل هذه الأسئلة الكونية الكبيرة. كان يمكن استخدام التفكير في نهاية العالم أيضًا لأغراض يومية أكثر عملية. وهذا واضح بشكل خاص عند الفلاسفة الرواقيين الرومان والأبيقوريين، الذين ربطوا بشكل وثيق الفيزياء (دراسة طبيعة الكون) بالأخلاق وكيفية عيش المرء حياة جيدة. كثيرًا ما يستخدم لوكريتيوس نهاية العالم للمساعدة على تخفيف الخوف من الموت. ويناقش الفيلسوف الرواقي سينيكا Seneca (‏‏حوالي ‏‏4 قبل الميلاد – ‏‏65 بعد الميلاد)‏‏ كيف يمكن لتخيل نهاية العالم أن يجلب ‏‏العزاء‏‏ بعد وفاة عزيز أو يخفف مشاعر الوحدة.‏ ‏ كان أحد الأهداف الرئيسية ‏‏للفلسفة الرواقية‏‏ هو أن تكون قادرة على مواجهة كل حدث وتحد بفهم واتزان ومرونة، بما في ذلك نهاية العالم نفسها. حتى الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس (‏‏121-180 م)‏‏ كتب عن نهاية العالم كجزء من ‏‏ممارسته‏‏ اليومية للفلسفة: “كل شيء في الوجود سوف يتغير بسرعة: إما أن يتحول إلى بخار، إذا كانت طبيعة الكون واحدة، أو أنه سيتبعثر”. وعلى الرغم من أنه عادة ما يُنظر إلى ماركوس أوريليوس على أنه فيلسوف رواقي، إلا أنه ليس دوغمائيًا عندما يتعلق الأمر بتصور نهاية العالم. إنه يهتم بالسيناريوهات الرواقية والأبيقورية جميعًا. إما أن العالم سيحترق ويتبخر حسب نظرية “انتهاء الدورة”‏‏، أو أن ذراته سوف تتبعثر وتنتشر في الفراغ. وما هو قيد العرض هنا ليس مجرد قبول الإمبراطور للأنظمة الفلسفية الأخرى، ولكن أيضًا حقيقة أن التفكير والكتابة عن نهاية العالم كانا جزءًا من “تمارينه الروحية”، ومشاركته اليومية مع الفلسفة التي تساعده على عيش حياة جيدة. ويبدو أن ‏‏الأدلة‏‏ النفسية الحديثة تدعم هذا الاستبصار القديم. قد يكون تصور نهاية العالم مفيدًا لك من خلال مساعدتك على تطوير المرونة النفسية.‏ ‏ اليوم، غالبًا ما تبدو التهديدات المتزايدة والمضاعفة من قدوم كارثة عالمية ‏‏ساحقة‏‏ ومربكة وغير مفهومة. وعلى هذا النحو، قد تلهم الخوف والشعور بالعجز و”القدَرية”. ولا يقدم التقليد الفلسفي القديم عن نهاية العالم حلاً سحريًا لمخاوفنا الحالية بشأن المستقبل. لم يكن على هؤلاء الفلاسفة أن يحسبوا حساب المخاطر الوجودية بشرية المنشأ التي نواجهها حاليًا، ولم يسع أي فرع من فروع الفلسفة اليونانية والرومانية القديمة إلى منع نهاية العالم. ومع ذلك، قد يوفر لنا هذا التقليد طريقة لإعادة موضعة أنفسنا نفسيًا فيما يتعلق بالكوارث المستقبلية ‏‏والمخاطر الوجودية‏‏. يمكننا اتباع نصائحهم وقبول نهاية العالم برباطة جأش. أو يمكننا البناء على رؤاهم والانتقال إلى المهام التالية المتمثلة في تشكيل مستقبل، إن لم يكن خاليًا من الكوارث، فعلى الأقل أكثر مقاومة لها.‏ ‏ *كريستوفر ستار Christopher Star‏‏: أستاذ الكلاسيكيات في كلية ميدلبري، فيرمونت. أحدث كتبه هو “نهاية العالم ‏‏والعصر الذهبي: نهاية العالم في الفكر اليوناني والروماني” Apocalypse and Golden Age: The End of the World in Greek and Roman Thought (2021).”‏‏‏ *نشر هذا المقال تحت عنوان: How the ancient philosophers imagined the end of the world (1) أناكسيماندر (610 ق.م – 546 ق.م): من فلاسفة ما قبل سقراط وعاش في ميليتوس، إحدى مدن أيونيا. انتمى إلى المدرسة الميليسية وتلقى تعاليم أستاذه طاليس. وخلّفه وأصبح الأستاذ الثاني لهذه المدرسة حيث جعل أناكسيمنس وفيثاغورس من تلامذته. القليل من كتاباته وحياته معروف اليوم. ووفقاً للوثائق التاريخية المتاحة. فإنه أول فيلسوف يدون فلسفته. بالرغم من أن مسودة واحدة فقط من أعماله هي التي نجت. كان من أوائل الفلاسفة الإغريق الذين ظهروا في بداية العصر المحوري، الفترة من 700 ق.م إلى 200 ق.م حين ظهر كذلك مفكرون ثوريون في الصين، الهند، إيران، الشرق الأدنى واليونان القديمة. كان نصيراً مبكراً للعلم وحاول ملاحظة وشرح جوانب الكون المختلفة مع اهتمام خاص بأصولها، حيث قال إن الطبيعة تحكمها القوانين، تماماً مثل المجتمعات البشرية، وإن أي شيء يهدد توازنها لا يدوم طويلاً. في مجال الفلك، حاول وصف علاقات الأجرام السماوية بالأرض. في الفيزياء، أقر بأن اللانهائي هو أصل كل الأشياء. وأتاحت له معرفته بالهندسة أن يقدم المزولة لأول مرة إلى العالم الإغريقي. وصنع خريطة للعالم تتفق إلى حد كبير مع المقاييس الجغرافية المتقدمة. كما كان منخرطاً في الميدان السياسي لمدينة ميليتوس وأُرسل كحاكم إلى إحدى مستعمراتها. وبإعلانه أن القوى الفيزيائية وليست القوى الخارقة هي التي تصنع النظام في الطبيعة. يعد أناكسيماندر من ضمن أوائل العلماء. كما يعد ضمن أول من استخدم التجريب العلمي. (ويكيبيديا) (2) زينوفانيس من كولوفون (570 ق.م إلى 480 ق.م): فيلسوف يوناني، شاعر، وناقد اجتماعي وديني. تقتصر معرفتنا بوجهات نظره على شعره الباقي الذي يتضمن هجاء ونقدًا لمجموعة واسعة من الأفكار الإغريقية، مثل الاعتقاد بالبانثيون. بالنسبة للقليل الذي وصلنا عن فلاسفة اليونان في عصر ما قبل سقراط يعد أول من صرح بعقيدته في الألوهية بلا غموض أو ترميز؛ حيث يعتبره الكثير من أساتذة الفلسفة ممهدًا لعلم اللاهوت، فضلاً عن أنه أول من نادى بالتوحيد الصريح من فلاسفة اليونان، رغم أن فلاسفة سبقوه بالإشارة إلى ذلك مثل فيثاغورس. ويذهب أغلب مؤرخي الفلسفة إلى الإشارة إليه على أنه ممهد التفكير الميتافيزيقي والنظر إلى ما وراء المادة المحسوسة وترك القول بالعناصر الطبيعة كمبدأ أول للكون، على عكس سابقيه طاليس وانيكسماندر وانيكسيمانس وهيراقليطوس وتلامذتهم. بالنسبة لآرائه الفيزيائية: ينقل عنه أنه بحث في الحفريات، ووجد قواقع في قشرة الأرض وحفريات لأسماك في الصخور، واستخلص من ذلك أن وجود الماء سابق على اليابسة، وأن الأرض ظهرت من البحر، وتوقع أن يغمرها الماء ثانية وتنتهى الحياة على اليابسة، ثم تتكرر الدورة وتبرز اليابسة من البحر ثانية وتعود الحياة فيها كما سبق. وهذا مقارب لقول انكسيماندر بظهور الحياة من المياه وأول من قال بالتطور. ورأى كذلك أن الشمس والنجوم عبارة عن بخار ماء مشتعل، وأنها تسير في خط مستقيم وتختفي في نهاية اليوم، وتكون الشمس القادمة في اليوم التالي شمسًا أخرى من بخار ماء حديث التكوين. اقرأ أيضا في ترجمات:اضافة اعلان