كيف تصنع قضايا الرأي العام؟











كيف تنجح قضية ما في أن تصل إلى دائرة اهتمام صانعي القرار، فيما تفشل قضية أخرى؟ وما هي الآليات التي يُدار من خلالها النقاش والحوار الوطنيان حول مسألة ما؟ وما هي المحددات التي تصنع الأجندة؛ أي أولويات أو برنامج عمل النظام السياسي واهتماماته؟ بمعنى آخر، من هم المسؤولون عن بناء الأجندة في المجتمع والدولة؟ اضافة اعلان
في المجتمعات الديمقراطية، تمارس وسائل الإعلام المستقلة الدور الأساس في تشكيل الأجندات العامة، حينما تتوفر لها إمكانية الوصول إلى المعلومات، فتتمكن هي بالتالي من توفير قناة حرة لتدفق المعلومات للمواطنين.
في الأردن، نلاحظ كيف يتم تصعيد قضايا عامة تصبح الشغل الشاغل للرأي العام، وتتحول إلى أجندة رسمية تتسابق النخبة السياسية إلى التفصيل بشأنها. وكذلك، كيف تغيب تلك القضية وتُسحب من المجال العام، وكأن ثمة قرارا اتخذ بوقف النقاش بشأنها، وربما من دون أن تُحسم. وثمة عشرات القضايا التي يمكن من خلالها رصد كيف عجز النظام الاتصالي والإعلامي تحديدا عن متابعتها، وكيف صمتت النخب، من دون مبررات، عن متابعتها. وفي المقابل، كيف تصنع قضايا جديدة، وأخرى مكررة ومعادة، من دون طائل، لإشغال الرأي العام، فيما يتم الصمت، وأحيانا التستر على قضايا أكثر أهمية وتأثيرا بالمصلحة العامة؟
تلك الأسئلة وغيرها تنتقل في تحليل القوى المؤثرة في تشكيل الرأي العام الأردني، من مستوى التحليل النخبوي التقليدي، إلى مستوى آخر يستند إلى حاجات الناس وأولوياتهم الفعلية.
يعتمد هذا المنظور العلمي على أربع أدوات أساسية تحسم بناء الأجندة بين المجتمع والدولة، وتعمل على تصعيد القضايا العامة وجمع المطالب ومراقبة المخرجات. وأولى هذه الأدوات هي النخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويقصد بذلك الأشخاص الذين يملكون القدرة على التأثير في السلطة والمؤسسات التنفيذية والتشريعية، بغض النظر عن وجودهم داخل تلك المؤسسات أو خارجها، وبغض النظر عن المواقع التي يشغلونها، أو المؤسسات السياسية التي ينتمون إليها. أما الأداة الثانية، فهي النظام السياسي الذي يحسم في نهاية الأمر الأولويات. وعادة ما يعتمد تعامل النظام السياسي مع الأجندة على قيمه وحاجته إلى الاستقرار والتوازن. وتتمثل الأداة الثالثة في النظام الاتصالي السائد، وفي مقدمته نمط وسائل الإعلام السائدة. أما الأداة الرابعة، فهي مؤسسات المجتمع المدني؛ من أحزاب ونقابات وغيرها. وهنا يبرز السؤال: أين الناس وحاجاتهم، وهم مادة الرأي العام ومن يشكله؟
الأصل أن الأدوات الأربع السابقة تتنافس وتتكامل في التعبير عن تلك الحاجات، وفي خلق الرضا العام. لكن المشكلة لدينا أن تلك الأدوات لا تعمل لحساب الناس، بل تعمل لمصالحها، وعين كل منها على كسب ود الأخرى؛ فالحكومة تعمل وعينها على كسب وسائل الإعلام أو احتوائها، والنخب تعمل وعينها على كسب ود النظام السياسي.. وهكذا! لذا، يبقى السؤال حول من يصنع الأجندة السياسية في الأردن، ومن يؤثر في عناصرها.
تعمل الديمقراطية على تقليص حدة الصراع الاجتماعي، من خلال التقريب بين مفاهيم المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية. ويكمن جوهر العدالة في المؤسسية والقانون؛ أي كفاءة الإدارة وفعاليتها، بهدف الوصول في النهاية إلى مستوى من الصراع حول تفسير النسق، من دون أن يطالب أحد بتغير هذا النسق. ووفق هذا التصور، نجد أن التنمية السياسية الأردنيّة قد وصلت إلى درجة معقولة نسبياً من النضج لدى أطراف المجتمع؛ والمتمثل في استقرار النظام السياسي والاتفاق العام حول هيكله الملكي النيابي، في حين ما يزال الدرب طويلاً نسبياً للوصول إلى اتفاق داخل المجتمع حول القيم الفرعية للعمل السياسي داخل هذا الإطار. ومن هنا، يحتدم صراع الأجندات والبرامج، وتبرز صناعة التضليل، وأداء تمثيل الرأي العام.
قبل عقدين أو أكثر، كنا نعرف تماما من يصنع الأجندات العامة، ومن يقف وراء القضايا التي تشغل الرأي العام. واليوم، علينا التنبه إلى حجم التغيير الذي أصاب المجال العام، كما يبدو في تعدد اللاعبين والقوى المؤثرة التي تسهم، بشكل أو بآخر، في تصعيد القضايا العامة وفي مسارات النقاشات العامة. تُرى، هل تعكس هذا القوى والأدوات تعددا حقيقيا؟ وهل تغيرت طريقة تعبير القوى التقليدية عن مصالحها؟ وهل ما تزال القوى المقابلة التي تدعو إلى التغيير غير قادرة على تغيير طريقتها في التعبير عن مصالحها؟ وهل تقسيم المجال العام بين هذه القوى ما يزال واقعيا؟