كيف خذل معسكر السلام الإسرائيلي الضعيف جمهوره

أفنار إنبار* — (ميدل إيست أونلاين)

ترجمة: عبد الرحمن الحسيني

نالت عملية "الجرف الصامد" دعماً شعبياً بشبه إجماع في إسرائيل. بل وتمتعت إسرائيل في البداية بدعم دولي كبير (بدده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإطلاقة المتهور لقدرة إسرائيل العسكرية ضد المدنيين العزل). وفيما نحن ندخل تهدئة هشة، فإنه يجب على قوى المعارضة في إسرائيل استخدام ما بعد هذه الحرب الأخرى أيضاً لعرض قضية تغيير استراتيجية إسرائيل الراهنة تجاه الفلسطينيين والمنطقة والعالم. ويعتمد الكثير في ذلك على تزويد الإسرائيليين بالسياق المناسب. وفي الحقيقة، من الممكن تبرير عملية الجرف الصامد استراتيجياً فقط عندما تم إخراجها من سياقاتها. وما من شك في أنها لو كانت حماس قد بادرت إلى إطلاق الصواريخ على إسرائيل من دون أي دوافع، وأنه لم يكن ثمة نهج عمل بديل لوقفها، لكان شن عملية عسكرية أمراً لا يمكن تجنبه. لكن هجمات حماس المدانة على الأهداف المدنية تتم في سياق صراع كان وما يزال من الممكن حله. وهذه هي الرسالة المحورية لحركة السلام الإسرائيلية. وهي رسالة كان من الواجب على معارضتنا البرلمانية أن تكون قد أصرت عليها خلال الحرب.اضافة اعلان
مع ذلك، ألا تمكن المحاججة بأنه حتى لو كانت الحرب ممكنة التجنب في المخطط الكلي للأشياء، فهل كانت ضرورية على ضوء الظروف الراهنة. من الطبيعي أن يعتمد الجواب على الكيفية التي نستطيع بها تكوين السياق السببي . بالنسبة لنتنياهو، لا يمكن فهم أي تطور مفرد في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من دون الرجوع وراء تسعين عاماً على الأقل. وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي على سبيل المثال، وصف نتنياهو أعمال الشغب التي كانت مدينة يافا قد شهدتها في العام 1921 بأنها كانت نقطة اندلاع الصراع. ويعد تقريره التاريخي بمثل جودة أي تقرير آخر، لكن الملاحظ حول نتنياهو حقيقة اعتقاده بأن شيئاً لم يتغير منذ ذلك الوقت. وما يزال اليهود الإسرائيليون في العام 2014 يواجهون نفس الحالة الأساسية التي كان قد واجهها المهاجرون الصهاينة وراء في ذلك الوقت: الأمر كله حول تردد العرب في قبول تواجدنا في وطننا القديم. وفي القاع لا يعتقد نتنياهو بأن الصهيونية قد غيرت الديناميات الأساسية للتاريخ اليهودي، وإنما أعطتنا الأسلحة للدفاع عن أنفسنا.
 لكن الحرب الأخيرة على غزة لم تكن قد فرضتها في الواقع تلك التطورات في أوائل العشرينيات من القرن العشرين. إن السياق المباشر لهذه العملية له صلة بتصميم إسرائيل على نسف حكومة فتح-حماس التي كانت قد أدت القسم يوم 2 حزيران (يونيو) في أعقاب الانهيار المتوقع لجولة المفاوضات سيئة الطالع التي كان قد بادر إليها وزير الخارجية الأميركية جون كيري. وبدفع قلقه من قرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دعم الحكومة الفلسطينية الجديدة، بالغ نتنياهو في ردة فعله على خطف وقتل ثلاثة شبان إسرائيليين في الضفة الغربية. وتحت ستار عملية البحث عن المراهقين الذين كان قد عرف بأنهم ماتوا أصلاً، شن نتنياهو "عملية حاس الأخ" –التي سبقت عملية الجرف الصامد ودخلت طي النسيان راهناً. وأصر نتنياهو على مسؤولية حماس عن عملية الاختطاف، واعداً بتقديم "دليل لا يقبل النقض". ومن بين الأربعمائة فلسطيني الذين اعتقلوا كان هناك ثمانية وأربعون من متشددي حماس الذين كان قد أفرج عنهم في صفقة جلعاد شاليط في العام 2011، ولم يعودا إلى ممارسة الإرهاب، استناداً لوثائق رسمية إسرائيلية. وفي ضوء هذا السياق، يصبح واضحاً أن التطورات المأساوية في غزة بدأت عندما فقد نتنياهو، المصمم على إخراج المصالحة الفلسطينية عن مسارها، السيطرة على تصعيد سعّره هو بعد هجوم عنيف، وإنما صغير (والذي فشلت إسرائيل حتى اللحظة في إثبات أنه نفذ بأمر من قيادة حماس).
من هذا المنظور، تشكل الأسابيع القليلة الماضية اتهاماً خطيراً موجهاً لقيادة نتنياهو. ولسوء الطالع، لم تقدم المعارضة الإسرائيلية للجمهور أي رواية تتصدى لتلك الرواية التي روجها نتنياهو ووسائل الإعلام الإسرائيلية المسعورة. وبسبب الخوف من التصدي لشبه إجماع مطلق يدعم الحرب، اختارت قيادة معسكرنا السلمي الواهن قرع طبول الحرب أيضاً. ربما كان انتقاد نتنياهو في زمن الحرب سيفضي إلى تراجع قصير الأمد في الدعم، لكن كان من شأنه إرساء دعائم التحدي لسيطرة اليمين على الطريق. وذلك لأن الاختلاف المعرف بين المعسكرين في إسرائيل يهم موضوع الحتمية: هل نستطيع حل هذا الصراع، أم أن من المقدر لنا أن نعيش في ظله الكئيب إلى أجل غير مسمى؟
كان من الممكن تبرير شن عملية "الجرف الصامد" من جانب نتنياهو فقط لو لم تكن هناك طريقة أخرى. كما أن اليمين الإسرائيلي ينتعش بالشعور بالحتمية التاريخية. ومن دون تمييع تضامنها مع الحنق الأصيل للإسرائيليين، كان يجب أن تتخذ المعارضة موقفاً أكثر شجاعة عبر الإصرار على أن هذا التفجير للعنف، مثل العديد من سابقاته، كان من الممكن تفاديه برمته. وما يزال قائما، كما هو مؤمل، احتمال أن لا يكون الوقت متأخراً جداً لتغيير النهج. ويجب علينا التغلب على هذا الفشل التاريخي من أجل تقديم رواية واضحة وموحدة عن أزمة إسرائيل الاستراتيجية. وفيما يلي بعض النقاط التي أقترح أن نفعلها في أعقاب الحرب:
أولاً، عدم قدرة نتنياهو على السيطرة على سلسلة التطورات تنزع الثقة في استراتيجيته لإدارة الصراع، فكيف بحله. على الإسرائيليين أن يفهموا أن المستقبل الذي يستشرفه اليمين يتكون من نوبات دورية من العنف. وبالإضافة إلى خسارتهم البشرية، فإن حالات الجيشان هذه ستضعف اقتصادنا وتحّت موقف إسرائيل الدولي.
 ثانياً، قرار نتنياهو الانسحاب من غزة بعد توغل قصير ودموي ينزع الثقة في ادعاء اليمين بأن التواجد المادي في الأراضي الفلسطينية يزيد من أمن إسرائيل. وعندما لا يستطيع حتى الصقور ذوو النية الطيبة، مثل وزير الدفاع موشي يعالون، الانتظار لسحب قواتهم من غزة، فمن يستطيع الاستمرار في القول بأن الاحتلال البري يقدم أفضل ضمان لأمن إسرائيل؟
ثالثاً، من الممكن وقف عدوان حماس على إسرائيل بواسطة الوسائل الدبلوماسية، بما في ذلك رفع الحصار عن غزة، والذي عمل القليل لتوفير الأمن للسكان الذين يعانون في البلدات الحدودية الجنوبية في إسرائيل. والتوصل إلى اتفاقية مباشرة أو غير مباشرة مع حماس (كما فعل نتنياهو مرتين) لا ترقى إلى درجة الموافقة على أجندتها المعادية لإسرائيل.
رابعاً،  إن العالم ليس منحازاً ضدنا على الرغم من أفعالنا. وتبقى علاقات إسرائيل مع عائلة الدول لا يمكن الاستغناء عنها بالنسبة لأمنها وازدهارها. ويشكل موقف اليمين من حلفاء إسرائيل-مثل الهجمات السمية على محاولات كيري وقف إطلاق النار، تهديداً استراتيجياً لمستقبلنا.
خامساً، ما يزال السلام هو الطريق التي لم تطرق. ولا يجب الخلط بين فشل عملية السلام وفشل حل الدولتين. وبينما قد لا تكون المصالحة ممكنة التحقق في الحال، فإن لإسرائيل مصلحة مؤكدة في تأسيس دولة فلسطينية مستقلة تعيش بجوارها. ويجب علينا السعي لوضع حد للصراع العنيف مع الفلسطينيين، حتى لو لم نستطع التوصل إلى اتفاقية شاملة على كل القضايا التاريخية والرمزية، بما في ذلك المطلب الجديد بأن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولة يهودية.
يجب على هذه الرواية التأكيد على قوة إسرائيل في مواجهة قصة اليمين غير المنتهية عن الضحية. إن ما يحدد مستقبلنا ليس القوى الثابتة التي تسكن خيال نتنياهو البائس. إننا لا نتعرض للهجوم ببساطة لأننا يهود. إننا نتعرض للهجوم لأننا طرف في صراع على الأرض والموارد، بالإضافة إلى الحرية والكرامة والعزة. وعلى نحو يستوجب الملاحظة، وصل هذا الصراع الطويل والمرعب إلى نقطة تتلاقى فيها مصالح كلا الطرفين عملياً، بينما تظل عواطفهما على مسافة سحب الخنجر من غمده. لن يتم حل الصراع طالما يظل الإسرائيليون معتقدين بحتميته. وإذا ما كان لقوى السلام والديمقراطية أن تكسب، فإنه يجب علينا إعادة إدخال الشعور بالاحتمالية إلى داخل النقاش السياسي في إسرائيل، ويجب علينا تبني رسالة تغيير واقعية وتقدمية. كما يجب علينا البدء في العمل ونحن نؤمن بهذه الرسالة، حتى في زمن الحرب.

*مدير "مولاد"، المؤسسة الفكرية التقدمية التي تتخذ من القدس مقراً لها.
*نشرت هذه القراءة تحت عنوان: How Israel Shriveling Peace Camp Failed the Public