كيف خلق "كوفيد - 19" ترتيباً جديداً للمعاناة

جوليان باغيني* - (نيو ستيتسمان) 3/3/2021
ترجمة: علاء الدين أبو زينة

طغت حالة الطوارئ الصحية العامة التي صنعها "كوفيد - 19" على المصاعب الخاصة، ما دفع الكثيرين إلى الشعور بأن مشاكلهم الفردية أصبحت أقل أهمية.

  • * *
    "هل تتحدث عادة هكذا؟" في المرة الثالثة التي سألني فيها طبيب هذا السؤال، أدركت أن حالتي أسوأ كثيراً مما تصورتُ. كانت "الانفلونزا" التي أصابتني ما تزال تستعر منذ تسعة أيام. وكنت قد فقدت شهيتي وانتابني ضعف شديد. وبعد زيارة طبيبي العام، أُرسِلتُ لإجراء أشعة سينية للصدر، والتي أشارت نتائجها لإدخالي إلى وحدة الأجهزة التنفسية في مستشفى بريستول الملكي.
    في غضون يوم واحد أصبحت في وحدة العناية المركزة. وكان الأطباء يفكرون بجدية في تنبيبي (1). وسرعان ما تم توصيلي بأنابيب متعددة وقسطرة وُوضِعت على الأكسجين أربعاً وعشرين ساعة في اليوم. وتم إجراء الاختبارات والفحوصات من كل الأنواع، لكن أحداً لم يكن متأكدًا من ماهية الشيء الذي تسبب لي بهذا الالتهاب الرئوي الحاد.
    كان لدي العديد من الأعراض غير النمطية. وكان من أغربها أنني عانيت من فواق لا يمكن إيقافه. وبعد يومين، دفع المسعفون أنبوبًا في حلقي، وتم إطلاق الغازات، وفي النهاية توقفت الفواق. لكن العارض الأكثر خطورة هو أنني لم أشعر، على الرغم من انخفاض مستويات الأكسجين في جسمي، بضيق في التنفس أو بالكرب (سيتبين لاحقًا أن "نقص الأكسجة السعيد" هذا هو أحد أكثر الأعراض غرابة للإصابة بـ"كوفيد - 19".(2)
    وكنت محظوظاً. لم يتم تنبيبي مطلقًا وبعد ثمانية أيام، في نهاية شباط (فبراير) 2020، خرجت من المستشفى وبدأت في التعافي البطيء خلال الأشهر التالية. وقد مرضت عندما كان فيروس كورونا ما يزال قصة إخبارية أجنبية، عن شيء كان يستعر في الصين في ذلك الحين -لم يكن هناك اختبار للكشف عن "كوفيد" في مستشفيات المملكة المتحدة. ومنذ ذلك الحين، تساءلت: هل أصبت به؟
    ما أزال لا أعرف. وقد أخبرتني إحدى الاستشاريات التي راجعت قضيتي خلال فحص طبي تفقدي بعد بضعة أشهر أنها كانت تدرس الملاحظات عن حالتي وهي تفكر: "كوفيد"، "كوفيد"، "كوفيد". وقد دفعتُ النقود لإجراء اختبار الأجسام المضادة بعد أربعة أشهر، لكن النتيجة السلبية لم تكن نهائية.
    لماذا يجب أن يكون هذا مهماً؟ لن يصبح ما مررتُ به أفضل أو أسوأ بأي حال إذا علمتُ أنه كان "كوفيد". ولا شك في أن الفضول محفز كبير. ولكن، هل هذا كل شيء؟
    إذا أردتُ أن أكون صادقًا، فأعتقد أنني أريد أن يكون مرضي هو "كوفيد" لأن ذلك سيجعله -بطريقة ما- أكثر أهمية وانطواءً على المعنى. إذا كان ما أصابني هو "كوفيد"، فإنني أكون قد لعبت دورًا في هذه الدراما العالمية الكبرى. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فقد كان مجرد محنة خاصة أخرى، ومن لديه هذه الأيام الطاقة العاطفية الاحتياطية للتعامل مع واحدة من هذه الخصوصيات؟
    أظن أن هذه الرغبة في أن يكون لمعاناتنا معنى أوسع ليس بالأمر غير المعتاد. منذ بداية الوباء، تلتف محاولاتنا للصمود حول شعار "نحن كلُّنا في هذا معًا". لكن الكثير من مشاكلنا لا علاقة لها بـ"كوفيد" على الإطلاق. وعندما نتحد حول شيء واحد، يميل كل شيء آخر إلى التلاشي. كم عدد أولئك الذين شعروا بأن معاناتهم الخاصة أصبحت أقل أهمية، ولذلك تم استبعادهم بطريقة أو بأخرى؟
    نحن نعرف أن هذا حدث بطريقة واحدة على الأقل. في نيسان (أبريل) 2020، أظهر استطلاع أجرته هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية أن أربعة من كل عشرة أشخاص لم يطلبوا المساعدة من طبيبهم العام لأنهم كانوا يخشون أن يكونوا عبئًا على الهيئة أثناء انشغالها مع الوباء. وبحلول تشرين الأول (أكتوبر)، قال ما يقرب من نصف الذين شملهم الاستطلاع إنهم سيؤجلون طلب المساعدة الطبية -أو إنهم لن يطلبوها على الإطلاق- وحيث قال 22 في المائة إنهم لا يريدون أن يكونوا عبئًا على الخدمات الصحية، كدافع.
    سوف تكون لغة العبء هذه منطقية فقط إذا كان هناك تسلسل هرمي للحاجات، حيث تعد بعض المطالبات المتعلقة بوقت الأطباء أكثر شرعية من غيرها. وهذا يدل على أن نسبة كبيرة من السكان لم يكتفوا بالشعور بأن معاناتهم الفردية أقل أهمية فحسب، بل أكدوا ذلك صراحة.
    إن فكرة وضع تسلسل لأهمية المرض شيء كانت مهنة الطب على دراية به منذ عقود. في العام 1943، تحدث الفيلسوف والطبيب، جورج كانغويلهم، عن "ترتيب هرمي مبتذل للأمراض" على أساس "مدى سهولة تحديد الأعراض وتحديد موضعها في الجسم". وكانت رؤيته الرئيسية هي أن تكوين فكرة واضحة عن المرض في حد ذاته يجعلنا نشعر بأننا أصبحنا نمتلك سيطرة أكبر عليه. "رؤية كيان تعني مُسبقاً توقع إجراء".
    في الآونة الأخيرة، حصل تمييز بين الأمراض ذات المكانة العالية، مثل سرطان الثدي وأمراض القلب، المعروفة جيدًا والمثيرة للتعاطف من جهة، والأمراض ذات المكانة المنخفضة، مثل مرض التهاب الأمعاء، واضطرابات التمثيل الغذائي، وسرطان الرئة من جهة أخرى، والتي غالبًا ما يُنظر إليها على أنها محرجة أو يلحقها المرء بنفسه.
    تؤثر الترتيبات الهرمية للمعاناة على أكثر من مجرد القضايا الصحية. إنك إذا فقدت وظيفتك بسبب الإغلاق، سيتولّد لديك شعور بأنك ضحية واحدة من ملايين الضحايا. وإذا فقدتها لأي سبب آخر، فأنت تنتمي إلى نادٍ خاص لعضو واحد فقط.
    ويكون التناقض أكثر حدة عندما يفلس عمل تجاري ما. يمكن لفكرة أنه لا عيب في انهيار عملك أو تجارتك لأن الوباء أوقفه أن تجعل أولئك الذين فشلوا لأن خطة عملهم لم تنجح يبدو محرِجاً وتخلق شعوراً بأنهم أسوأ، مقارنة. إنه الفرق بين كونك غير محظوظ وشعورك بأنك ارتكبت خطأ.
    ثم هناك ما أسمته جمعية "العقل" الخيرية بـ"الوباء الثاني" عندما كان الفيروس يعاود الصعود والتفشي هذا الشتاء. ولكن، مرة أخرى، إذا لم يكن لاكتئابك أو قلقك علاقة بـ"كوفيد - 19"، فإنك تكون مستبعداً من السرد السائد.
    كل هذا يخلق ضغطًا لإخبار قصة يكون الوباء عاملاً فيها، حتى لو أنه لم يكن كذلك. بهذه الطريقة، نحصل على تعاطف أكثر من الآخرين -وربما نكون أيضًا أكثر تعاطفًا مع أنفسنا. لكننا إذا استسلمنا لهذا الإغراء وأقنعنا أنفسنا بأن مشاكلنا كلها جاءت نتيجة الوباء، فإننا نجازف بالتهرب من مواجهة الأسباب الحقيقية الكامنة وراءها، وتأجيل الحساب اللازم للأسباب الكامنة إلى أن يتراجع فيروس كورونا.
    لعل التأثير الأكثر غدرًا للترتيب الهرمي الجديد للمعاناة هو الشعور بالذنب: إذا كنت تعتقد أنك تواجه مشكلة عندما يكون العالم في محنة بسبب "كوفيد"، فمن الأفضل أن تكون مشكلة كبيرة. لكن من الخطأ ببساطة التفكير بأنك إذا نجوت من ويلات فيروس كورونا، فقط لتقع في ويلات شيء آخر، فإن معاناتك الخاصة ستكون أقل أهمية.
    الآن، بعد مرور عام على بدء انتشار الوباء، حان الوقت للتراجع بوعي عن الأزمة التي حجبت كل شيء آخر، وتفقد كل أولئك الذين ربما نكون أهملناهم نتيجة لذلك. إننا نعلم باستمرار أن ضحايا "كوفيد" هم أكثر من مجرد أولئك المتأثرين مباشرة بالمرض. الآن يمكننا أن نرى، في ما ينطوي على مفارقة، أن المرض يعبث بالعديد ممن لم يتأثروا به على الإطلاق.
اضافة اعلان

*Julian Baggini: مؤلف أحدث كتبه هو "كيف يفكر العالم".
*نشر هذا المقال تحت عنوان: How Covid-19 created a new hierarchy of suffering
هوامش المترجم:
(1) التنبيب الرغامي أو التنبيب inabuation هو إدخال أنبوب بلاستيكي إلى داخل القصبة الهوائية لإبقاء المجاري التنفسية مفتوحة أو ليعمل كمجرى لإعطاء المريض أدوية معينة من خلال هذا الأنبوب.
(2) نقص الأكسجين السعيد Happy hypoxia هو أحد مضاعفات فيروس كورونا المستجد، وهو حالة قد تتسبب بفقدان الحياة بنقص الأكسجين من دون أن يشعر المصاب بذلك. سميت الحالة كذلك لأنك تفقد الأكسجين وأنت تشعر بأنك على يرام ولا تعرف بما يحدث حقاً.