كيف نستخلص الدروس من الأوبئة؟

خافيير سولانا مدريد- من بين العديد من الآثار التي أحدثتها أزمة "كوفيد 19"، تكثيف التنافس الجيوسياسي الموجود بين الصين والولايات المتحدة. وقد دفع هذا التوتر الكثيرين إلى التحذير من "فخ ثيوسيديدز"، وهو مصطلح صاغه غراهام تي أليسون من جامعة هارفارد، للإشارة إلى الخطر المتزايد لصراع ما، عندما تهدد قوة ناشئة بإزاحة قوة راسخة. وأخذت نظرية أليسون اسمها من تأريخ المؤرخ اليوناني القديم ثوسيديديس لحرب البيلوبونيز، حيث هزم سبارتا الدولة المدينة الصاعدة في أثينا. ومع ذلك، فقد وقعت إحدى الأحداث المهمة في هذا المحك التاريخي، ولم تُلاحظ إلى حد كبير، حتى في خضم التفشي المستمر للجائحة: إذ كان العامل الحاسم في انتصار سبارتا هو وباء أودى بحياة حوالي ثلث سكان أثينا، بما في ذلك بريكليس، زعيم المدينة. ويقول فرانك م. سنودن من جامعة ييل، أنه رغم أن الأحداث العسكرية والسياسية قد تسود في الذاكرة العامة، فقد كان للأوبئة دورًا حاسما في التغييرات التاريخية العظيمة. فعلى سبيل المثال، كان التيفوس هو الذي أنهى غزو نابليون لروسيا عام 1812، في حين يُعتقد أن وباء الإنفلونزا الذي تفشى في الفترة 1918-1919، قد أضعف من قدرات الرئيس الأمريكي، وودرو ويلسون، خلال مفاوضات معاهدة فرساي. ومع ذلك، قبل تفشي كوفيد-19، نسيت المجتمعات الغربية، إلى حد كبير، مقدار الضرر الهيكلي الذي يمكن أن يسببه مرض ما- على الرغم من أن وبائي الكوليرا والملاريا يخربان حاليًا المناطق الأشد فقراً في العالم، وأن وبائي الإيدز وأنفلونزا الخنازير العالميين قتلا الكثيرين في العقود الأخيرة. وكان العلماء يحذروننا منذ سنوات من تفشي وباء وشيك لفيروس الجهاز التنفسي، يعادل في شدته إنفلونزا 1918-1919، إلا أننا لم نكن مستعدين بما يكفي لاحتواء انتشار فيروس كورونا الجديد. ويرجع ذلك أساسًا إلى الغفلة التي أظهرها قادة الاقتصادات المتقدمة في بادئ الأمر، إلى جانب الضعف المزمن للبلدان النامية، والذي يلقي بظلاله على خبرتها الكبيرة في إدارة الأوبئة. وعلى الرغم من أن فيروس كورونا يؤثر على جميع المجالات، بسبب خبثه، ونظرا للإغلاق غير المسبوق تقريبًا لجزء كبير من الاقتصاد العالمي، إلا أنه يزيد من تفاقم التفاوتات الاجتماعية الموجودة داخل البلدان وفيما بينها. وفي كل يوم، يتعرض العاملون في قطاع الصحة، وغيرهم ممن يشتغلون في القطاعات الأساسية لخطر الإصابة بالعدوى، غالبًا بدون حماية كافية، وبأجور لا تعكس القيمة الأساسية لجهودهم. كذلك، تواجه العديد من القطاعات المتضررة على نحو خاص من الإغلاق الاقتصادي، مستقبلًا غامضًا. ويبقى التحدي أكبر بكثير في البلدان المتوسطة أو المنخفضة الدخل، بسبب قدرتها المالية الضئيلة، واتساع نطاق اقتصاداتها غير الرسمية، وهشاشة نظم رعايتها الصحية، وافتقارها للمرافق الصحية. ولكل هذه الأسباب، فإن شدة الظروف الحالية تجبرنا على إعادة تصميم عقودنا الاجتماعية. ففي البلدان المتقدمة، حيث سمح إهمال الاقتصاد الحقيقي لعدم المساواة بتقويض التماسك الاجتماعي، تكمن الأولوية الأشد إلحاحًا هي حماية العاملين في القطاعات الأساسية بصورة مناسبة، وتعويضهم ماديًا- وليس فقط بالتصفيق، وإن كانوا يستحقون ذلك بجدارة– لكونهم أسهموا في رفاهنا. ومن أجل ضمان انتعاش اقتصادي واسع النطاق، يجب علينا توفير الحد الأدنى من شبكة الأمان لجميع من فقدوا وظائفهم بسبب كوفيد-19. ولا يمكن بالطبع نسيان البلدان الأقل ازدهارًا. وهذا يعني تخفيف عبء ديونهم، ومساعدتهم في الحصول على الأدوية واللوازم الطبية على قدم المساواة، وضمان حصولهم على لقاح كوفيد-19، عندما يصبح متاحًا. وينبغي على العقد الاجتماعي الفعال مراعاة السياق العالمي، وأن يأخذ التركيز العالمي الفعال تغير المناخ بعين الاعتبار. فالأرض هي الملكية المشتركة الأهم للبشرية، ومع ذلك، فقد تأثرت أيضًا بالسبب الأصلي لأزمة كوفيد-19: وهو العمى الجماعي لدينا. ومثلما كان من المحتمل أن نسيطر على تفشي فيروس كورونا بوتيرة أسرع وأكثر فعالية، لو استمعنا إلى علماء الأوبئة، لا يزال لدينا الوقت لمكافحة الاحترار العالمي قبل أن نمر بنقطة اللاعودة. ومع ذلك، لن يحدث ذلك إلا إذا استمعنا إلى تحذيرات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة، وتصرفنا دون تأخير. وعلى أي حال، ليس من المؤكد أن الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الناتجة عن الإغلاق الاقتصادي، سيكون كافياً لتحقيق أهداف اتفاقية باريس للمناخ، حتى لو استمر. ففي الواقع، قد يؤدي فرط الإنتاج المرتبط بإعادة فتح الاقتصاد، إلى خطر رفع معدل الانبعاثات إلى مستويات ما قبل الأزمة، كما حدث في الآونة الأخيرة في الصين. ولتجنب الكارثة، يجب علينا، إذاً، أن نتصرف على الفور وبقوة: إذ لا يمكننا الحد من الاحترار العالمي إلى 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، إلا من خلال العمل الجماعي الطموح والمنسق، بقيادة الحكومات، واستكماله من قبل القطاع الخاص. فعلى سبيل المثال، يجب مراعاة تغير المناخ في الاعتبار عند تصميم كل حزمة تحفيز اقتصادي، من أجل ضمان جدواها على المدى الطويل. وعلى الرغم من حجم التحدي، هناك أشياء قليلة تعمل لصالحنا. إذ على عكس الصدمات النظامية الأخرى مثل الحرب، تظل البنية التحتية المادية سليمة طيلة فترة الجائحة، ويمكن إعادة تنشيطها بسهولة– إن سمحت الحالة الصحية بذلك. وفضلا عن ذلك، أسفرت المعركة ضد الفيروس عن تعاون علمي عالمي غير مسبوق، بما في ذلك من خلال التسلسل السريع لجينوم الفيروس، ونشره من قبل العلماء الصينيين، بالإضافة إلى نشر مئات الدراسات الجديدة كل يوم. كما يجب الإشادة بالمبادرات العامة والخاصة المتعددة لتطوير لقاح. ويأمل المرء أن تستمر هذه الجهود وأن لا تركز فقط على فيروس كورونا: ففي عام 2018 فقط، توفي أكثر من نصف مليون شخص في جميع أنحاء العالم بسبب الملاريا أو الكوليرا. وفي حين أن الكثيرين يخشون من أن يتطلب هذا الوباء معتكفا وطنيًا، فإن علماء العالم يظهرون لنا أفضل طريقة للمضي قدمًا. إنهم لا يضعون أبحاثهم تحت تصرف الجميع فحسب، بل يقومون أيضًا بصياغة طريقة عمل تعاونية، تمكنهم من القيام بالمزيد، والقيام بذلك على نحو أفضل. ويجب على جميع البلدان، بدءًا بالقوتين العالميتين الرائدتين، أن تحذو حذوهم، وتعترف بترابطها الذي لا رجعة فيه. وما هو على المحك لا يقل عن كونه مستقبل الكوكب وبقائنا. ترجمة: نعيمة أبروش Translated by Naaima Abarouch شغل خافيير سولانا، سابقا، منصب ممثل الاتحاد الأوروبي السامي المعني بالشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، ومنصب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ووزير خارجية إسبانيا؛ ويشغل حاليًا منصب رئيس معهد الاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية في مؤسسة ESADE )المدرسة العليا لإدارة الأعمال)، ومنصب زميل متميز في معهد بروكينغز. حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020. www.project-syndicate.orgاضافة اعلان