كيلي طفح مع أنه فارغ إلى المبجلين في الحكومة فردا فردا

 

عندما كنت صغيرة في المدرسة، كنا نسمّي من تخبر المعلمة عما فعلناه او قلناه، مما لا ينبغي لنا، "فسّادة" او "فتّانة". وكانت هذه الصفة من البشاعة بحيث تجعل بقية البنات يحجمن عن مخالطتها، فتلك وصمةٌ ما بعدها وصمة! وكان اخي الصغير اذا اوشكتُ ان اشكوه لأبي عن ازعاجاته الطفولية، يسارع الى القول: "الفتنة أشد من القتل"، فأضحك وانسى ما فعل. ولكني فيما بعد لم استطع ان اضحك على ما حصل لي، وهذا خبره.

اضافة اعلان

كبرت ودخلت الجامعة وتخرجت منها وعملت وسافرت وانخرطت في الهم العام، وصرت اسمع ان ثمة من "يفسد علينا" (بفتح الياء وكسر السين)، فيما نقول، ومع من نتحدث. ولم أكن لأصدق، الى ان اضعت في روما الجميلة جواز سفري، فعدت من السفارة هناك بورقة (ليسيه باسيه) على ان اعود الامن. وكانت هناك تنتظرني المفاجأة الكبرى! فالفسّادون - زملائي في الجامعة، واظن انهم ممن كانوا يجرجرون في العِلم، ولهذا الظن سبب وجيه- قد خبرّوا انني شيوعية وانني اخوان مسلمون في آن! لم استطع ان اضحك آنئذ، بسبب قلة الخبرة في مواجهة مفارقات الحياة. ولكنني، وقد لاحظت خللاً منهجياً، سألت المحقق ببراءة حقيقية: كيف يمكن ان اكون هذا وذاك معا؟ ومن هو هذا العبقري الذي لا يميز بين مذهبين على هذه الدرجة من التضاد؟ ثم، واذ الفسّاد كان غائبا، فقد نزلت (بساحة) غبائه وجهله، واعلنت اني ضد الحزبية من اي نوع. وكان ذلك شعوري فعلا عندئذ. ثم استكتبت اقرارا يفيد اني لم اكن في الاحزاب يوما، واضفت من عندي تبرّعا "ولن اكون".

حرّكت هذه الحادثة في نفسي فيما بعد اشياء. فإني إن نظرت الى تاريخي وجدته خاليا من "وصمة" النضال السياسي الذي عرفه عدد من ابناء شعبي ليوصلونا الى ما نحن عليه من مغامرة الديمقراطية الفذّة. ووجدت ان تجربة السجن العظيمة التي خاضها بواسل من قبل، كانوا يحلمون بالعدالة والمساواة، تنقصني. وحتى لو كنت حققت التمرد وُضبطت متلبسة بالمنشورات مثلا، فلن اقاد الى السجن، لأن بلدي -وهو في الدرجة العليا من الشهامة- لم يكن يسجن النساء سياسيا.

 وكيف اذن سأحدّث حفيداتي واحفادي في ليالي الشتاء الباردة، ونحن نتدفّأ على وهج شمعة (لانعدام السولار وانقطاع الكهرباء لسبب معروف)، عن مغامراتي البطولية في السجن؟ ثم اكتشف ان ليس لي احفادٌ بعد، ولم اسجن يوما. ولكني قلت لنفسي مؤخرا: ان الوقت لم يفت على الدولة لتزجني فيه، لأفكاري المزعجة هذه عن الحرية والمرأة وحقوق الانسان والتعددية واحترام الثقافة وتبجيل اهلها... الخ، وخصوصا بعد ان مهدت طريقه -اي السجن- لبنات جنسي توجان فيصل... ثم قلت لنفسي: انها -اي الدولة- ليست مضطرة ان تضعني خلف اي قضبان، ما دامت قد اغلقت عليَّ كل مصدر للرزق (وجميع وزراء ثقافتها السابقين وعدد من رؤساء وزاراتها يعلمون)، ونفتني من المشاركة وتوظيف خبرتي الطويلة والنوعية في خدمة وطني، وهو حقّي الطبيعي (للإنصاف عيّنت في احدى لجان الثقافة فقط)، مع انها لا تتوانى عن نفح المواقع لكل من بينه وبين الفهم والنباهة والتخصص عداءٌ مستحكم. انها عملياً تضعني وخبرتي وافكاري عن البناء والتغيير في سجنٍ اقتصاديٍ يمسّ كل يوم جوهر الكرامة الانسانية، ويستنزف الروح في امنها المفقود... ولربما ان هذا هو التبجيل وانا لا اعرف!

لن اتحدث عن المرات التي كنت فيها ألوبُ كلبؤةٍ في قفصٍ، ولا عن المرات التي فكرت فيها ان الموت هو الحل، لا الاسلام ولا الديمقراطية، ولا عن المرات التي جأرت فيها بالصراخ في فراغ البيت، ثم رأيت ان مشكلتي صغيرة، ما دمت قادرة على التحايل على الفواتير، ولو تراكمت الفوائد وانقطعت الحرارة، وما دام على بعد خطوات في حارتي كائنات بشرية تعبث في حاوية قمامة تستخرج منها ما يصلح طعاما او متاعا!

لربما ان الموت الشريف الرحيم فعلا هو الحل لي ولأمثالي من اهل المعرفة والافكار! ولكن من المؤكد انه ليس الصمت المطبق والغياب فيه.

فدعوني يا اخوتي -اولئك الذين (فسَدوا) او (لم يفسِدوا) بعد- اعلن صرختي هذه... فإن كيلي قد طفح، مع انه -ويا للمفارقة- كم هو فارغ! ثم من يهتمّ؟

[email protected]