كُتّاب، وكَتبَة..!

في ذهني فكرة ملحة -قناعة لا أدري مدى وجاهتها- بأن معظم الأسماء الكبيرة من المفكرين العرب الذين برزوا في الغرب وأصبحنا نكتب عنهم الرسائل الأكاديمية، لم يكونوا سيصنعون شيئاً كبيراً لو أنهم ظلوا هنا. واستطراداً، يشعر نظراؤهم عندنا أنهم يقومون بتحبير صفحات الكتب والصحف، فقط لتذهب أفكارهم وكلماتهم أدراج الرياح. وأقول "تحبير" لأن الأمر كذلك كما يبدو –منح أشكال قابلة للقراءة لكميات من الحبر لملء المساحات، مجرد ملء المساحات. ولا أقصد قطعاً أن الكتاب هنا ليست لديهم أفكار كبيرة، بل العكس تماماً. لكن أهمية الفكرة تقاس باستعمالها وتوظيفها. والذي يحصل هو أن الالتقاطات البارعة والإشراقات الهائلة التي يكتبها الزملاء في الكتب والصحف، لا هي تؤثر في تغيير العقل العام، ولا يأخذها من أرضها صناع القرار الذين يُفترض أن ينبشوا الدنيا من أجل فكرة يمكن أن يبنوا عليها ويطوروها إلى آليات واستراتيجيات.اضافة اعلان
كتبت مؤخراً شيئاً عن نظرية "صدام الحضارات؟" التي وضعها الأكاديمي الأميركي صامويل هنتنغتون. ويعتقد الكثيرون أن مقالته التي ظهرت في مجلة "فورين أفيرز" تحت العنوان المذكور، كانت الجوهرة التي التقطتها مؤسسة صناعة القرار الأميركية لبناء ثيمة جديدة للنظام العالمي بعد انتهاء الحرب الباردة. وقد لا يكون هنتنغتون هو الشخص الوحيد الذي قدم مخرجاً نظرياً –ثم عملياً- لحيرة الإدارة الأميركية بعد اختلال المعادلة العالمية، لكنه كان مهماً إلى درجة عنونة الصراع الأساسي الجديد في العالم باسم مقالته –التي طورها إلى كتاب لاحقاً. وبعد ذلك، أسهمت أسماء أخرى، مثل مارتن كريمر، وفؤاد عجمي، وماكس بوب، وستيفن إيمرسون وآخرين في صياغة خطاب الكولنيالية الجديد وترويجه. باختصار: الكتاب والمفكرون يصنعون شيئاً أكثر من مهم.
ولكن، إذا كان ثمة علاقة بين صانع القرار وكاتب الرأي في المنطقة العربية، فهي في اتجاه واحد: أن يبسُط الكاتب وجهة نظر صانع القرار ويسوقها للجمهور بطريقته. ليس المطلوب من الكاتب أن يقترح، أو ليس مسموحاً له بأن يقترح عندما يتعلق الأمر بالجوهريات. وإذا حدث واقترح، مستعيناً بكل أدوات التأدُب والكياسة ولهجة الالتماس في تقديم فكرته المغايرة، فإنه نادراً جداً جداً ما يجد صدى لاقتراحه. وهذا في الحقيقة محبط جداً جداً أيضاً.
إنه يثني الكتاب عن التفكير في شيء جاد، أو الاستغراق في تحليل عميق "متعوب عليه". بل إنه يحرره –موضوعياً- من عبء الحفر والتعدين للبحث عن جواهر نظرية، بما أن استكشافاته لن تؤثر قطعاً في سلوك بلده وحياة مواطنيه. ولا شك أن كل المجتهدين في كل موضع يعانون شيئاً مشابها. هناك قطعاً عشرات الدراسات الرائعة التي تقترح خططاً ذكية ومنطقية لإصلاح الاقتصاد، أو التعليم، أو البنى التحتية والخدمات وغير ذلك، لكنها رهن أدراج المسؤولين. فكيف يكون حال فكرة مهمة مكثفة في مقال قصير؟
ثمة الكثير ممن يحاولون أفكاراً يمكن أن تحدث فرقاً حقيقياً، لكن أفكارهم تجلب لهم في أحسن الأحوال جائزة تقديرية تذكارية. وفيما عدا ذلك، هناك –إما ازدراء المسؤولين بمشاريع هؤلاء باعتبار المسؤول صاحب عصمة لا يحتاج إلى المشورة؛ أو أن هناك قناعة مؤسسية بعدم الجدوى –إذا توفر حسن النية- مصحوبة بقصر نفَس مؤسسي.
الكتابة في موضوعات المجتمع والسياسة لدينا تجعل عمل كاتب الرأي أشبه بعمل الكتبة في دواوين الدوائر، أو كتبة الاستدعاءات عند باب الجوازات. إن هؤلاء المهنيين –مع الاحترام لوظيفتهم المختلفة- يملأون النماذج ويعبئون الفراغات في الصيغ المحفوظة دون حاجة ولا متسع لآرائهم الشخصية. وسيكون عملهم إجرائياً ولا يقترح شيئاً على الذي يتمم المعاملة في الداخل. وحتى لو أُشرك الكتاب في لجان أو أجندات وطنية، فإنه لا يتاح لهم إنتاج شيء أكثر من التكميل التجميلي والتكريم المعنوي، ولم نشهد هذه المبادرات تصنع سياسات واستراتيجيات تحسِّن حياتنا وتصحح مسارات بلادنا.
لا عجب، في ضوء هذا التعريف المؤسسي لماهية الكاتب ومقترح الرأي أن تصيب العدوى الجمهور، فلا يستمع هو الآخر لنقده ولا مقترحاته. لا عجب في استحالة ظهور "صامويل هنتنغتون" محلي. ولا غرابة في أن يتجاسر الكثيرون على إهانة الكاتب وشتمه وتسفيه رأيه –اللهم إلا مكالمة شكر نادرة من قارئ ذواقة، أو أكثر ندرة من مسؤول يثني على فكرتك، ويغلق الخط. وهذا كل شيء!