لأنّ الدول ليست جمعيات خيرية

الانخراط التركي القوي في الشأنين السوري والليبي، والتحولات التي مرت بها أنقرة في مواقفها من هذين الملفين، يضعف نظرية "تصفير المشاكل" التي ارتكزت عليها تركيا-حزب العدالة والتنمية، كما نظّر لها أحمد داود أوغلو، في سياستها الخارجية الجديدة في المنطقة منذ عقد من الزمان. فمنذ صعود "حزب العدالة والتنمية" إلى الحكم في تركيا في العام 2002، أحدثت أنقرة تحولا استراتيجيا في سياستها الخارجية، بعد أن كانت مجرد دولة وظيفية تتعاطى مع ما يناط بها من مهام من قبل الدول العظمى، ولم تكن الدولة التركية قبل عشر سنوات تنظر إلى المنطقة بوصفها مجالا حيويا لها.اضافة اعلان
طوال العقد الماضي، سعت أنقرة إلى علاقات سياسيّة واقتصاديّة مميّزة مع دمشق، باعتبارها بوابة رئيسية لتركيا الجديدة نحو المنطقة. صحيح أن طرد سورية لزعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، في العام 1998 من أراضيها وتوقيع اتفاقية أضنة الأمنية، مهّدا لصفحة جديدة في العلاقات التركيّة– السوريّة، إلا أن هذه العلاقات لم تبلغ مداها كما بلغته مع استمرار "العدالة والتنمية" في الحكم ثلاث دورات انتخابية، تم عبرها الترويج لدبلوماسية "تصفير المشاكل" و"العمق الاستراتيجيّ" التي أراد واضعها، أحمد داود اوغلو، أن يؤسس وينظّر لتركيا كدولة مركزيّة في المحيط الإقليمي، لا كدولة طرفيّة ذات بعد وظيفي لا تحيد عنه في سياق السياسات الدولية الكبرى.
اليوم، تكتشف أنقرة مجددا أنّ الدول بالفعل ليست جمعيات خيرية، وأنّ ثمة محاور وتحالفات في المنطقة واصطفافات مذهبية وطائفية لا تخطئها العين الثاقبة، تبدو معها سياسة "كسب الجميع" سياسة ساذجة وحالمة، لا تُدرك مضمون تعقيدات السياسة في هذه المنطقة من العالم. والأرجح أن تركيا اليوم تدرك أن "تصفير المشاكل" لا معنى لها مع جارتها الجنوبية، وأنّ الحياد أو رفض التدخل الغربي في ليبيا، كما كان الموقف التركي بداية الأزمة الليبية، كاد يحرم أنقرة من مكتسبات استراتيجية مهمة لو أنها بقيت على فهمها السابق لما يجري.
"تصفير المشاكل" كانت تجمع في طياتها متناقضات يصعب هضمها على المدى البعيد. إذ يصعب على أي دولة، حتى لو كانت ذات ثقل إقليمي وازن مثل تركيا، أن تجمع بين سورية وإيران وحزب الله وحماس ودول الخليج وأميركا وإسرائيل! يصعب على دولة أن تكون عضوا فاعلا في حلف في "الناتو"، ثم تستمر في لعب "الدور الشعبوي" إلى نهايته من دون توقف.
إن وقع الصراع والفرز والاصطفاف في المنطقة يزداد مع "الربيع العربي". وهذا الأخير يقدّم الحجج الوافرة لتأكيد أن ما قيل عن عبقرية دبلوماسية "تصفير المشاكل" يَثبُت الآن قصوره، وبأنه أقرب إلى الشعار والإنشاء منه إلى حركة الدول والمصالح و"كولسات" السياسة ولؤم منطقها في كثير من الأحيان.
ما يتبدى الآن، على الأرجح، أنّ "تصفير المشاكل" كان نظرية حالمة لتصوّر المصالح التركية في المنطقة. وقد ثبت لأنقرة عبر المسألتين الليبية والسورية أنّ اكتساب الخصوم وربما الأعداء، جزء لا مفر منه في السياسة، مثلما هو اكتساب الأصدقاء والحلفاء.