"لئن شكرتم لأزيدنكم"

أ. د. محمد خازر المجالي

الإنسان في هذه الدنيا فقير إلى الله تعالى، مهما أوتي من قوة ومال وصحة وجاه. فهو فقير إلى رحمته تعالى ودوام نعمه، ومنها الصحة والبركة. وصدق الله: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ" (فاطر، الآية 15)؛ فلا أحد يزعم بأنه مستغن عن الله. وكم من أناس تكبروا وتجبروا وطغوا، فكان مصيرهم إلى الهلاك والمرض ومحق الرزق، فكل شيء بأمر الله تعالى، وهو الحكيم الخبير، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بحكمة، وهو المتصرف وحده في هذا الكون، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو على كل شيء قدير.اضافة اعلان
لقد قص الله علينا قصة قارون، وقد كان من قوم موسى فبغى عليهم، وظن أن ما به من نعمة إنما هو بعلمه وعمله وحسن تدبيره، فخسف الله به وبداره وملكه، وكان عبرة لغيره. وقص علينا قصة صاحب الجنتين، وكيف بغى وطغى وظن أن جنتيه باقيتان ولا موت ولا آخرة، ولو كانت هناك آخرة فسيعطيه ربه خيرا من جنتيه؛ فأتلفت جنتاه، وغار ماؤها، وأحيط بثمره. وقص علينا قصة أصحاب الجنة التي ورثوها عن أبيهم، وقرروا منع خيرها عن الفقراء، وكيف أتلفها الله تعالى، فكانت عبرة لهم ولغيرهم.
ومن المهم لكل إنسان ولكل مجتمع أن يعتني بما يحفظ عليه مقومات حياته المادية، وعلى وجه التحديد نعمتا الرزق والأمن؛ إذ امتن الله على قريش بهما قائلا: "فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ" (قريش، الآيتان 3 و4). وهنا أذكر بعض النقاط التي أشعر بأهميتها:
- الاعتصام بحبل الله جميعا؛ فلا بد للمجتمع من أن يلغي أي رابطة إلا رابطة العقيدة. إذ لا يحفظ أمن مجتمعاتنا لا عصبية ولا ولاءات لغيرنا. ولا بد لنا أن نراعي حقوق بعضنا ومنها القرابة، لكن الرابطة التي تجمعنا هي رابطة الإيمان.
وهنا نستذكر تلك المحاولة التي قام بها اليهودي شاس بن قيس لتفريق الأنصار الذين كانت بينهم حروب في الجاهلية، وكيف جمعهم الإسلام العظيم. فطلب من أحدهم أن ينشد أشعارا تذكرهم بحروبهم، فهمّ الفريقان بالاقتتال. وفزع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، دعوها فإنها منتنة؛ وأنزل الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ..." (آل عمران، الآيات 100-103).
- عدم التنازع المفضي إلى الاختلاف المفرِّق، قال تعالى: "... وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ..." (الأنفال، الآية 46). وهذه حقيقة نلمسها حتى الآن، إذ قضى التنازع على المجتمعات والأمم. وتاريخنا شاهد على ذلك في الأندلس وفي بلاد الشام، حين مهّد التنازع وتشتت الولاء لمقدم الصليبيين واحتلال المنطقة. وهو ما حصل أيضا في العصر الحديث من تمهيد للاستعمار، بل هو الذي يفتك حتى بالجماعات الإسلامية، حين تتنازع فيما بينها، وتتعصب كل فئة لفكرتها وأشخاصها؛ فالمصير هو الفشل والخور والضعف وذهاب الهيبة، لأن المقصد الأساس لم يعد إرضاء الله تعالى ونصرة منهجه، بل حظوظ النفس، والله تعالى لا يرضى أن يجمع العبد في نفسه حب الله وحب الدنيا، أو أن يزعم نصرة منهج الله وهو يخالف أبجديات أخلاق المسلم ومبادئ الإسلام العظيم.
- الاستغفار. وهو أمر مهم، يشعر المسلم بحاجته إلى الله وضعفه أمامه تعالى. فمن ضعفه أنه مقصّر قد يقع فيما حرمه الله، أو يتكاسل عما أمر به تعالى، فلا بد من سلامة هذه العلاقة بالتوبة إن كانت الكبائر، وبالاستغفار في غيرها، حيث يستشعر المسلم معية الله تعالى، وضرورة أن يتحلل من أي ذنب اقترفه.
وللاستغفار فوائد بيّنها الله تعالى في قوله: "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا" (نوح، الآيات 10-12)؛ فما أحوجنا أن تكون هذه العلاقة ناصعة صافية، فالاستغفار مجلبة للرزق بشتى أنواعه.
- إقامة شرع الله تعالى والاستقامة على أمره. قال الله تعالى: "وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا" (الجن، الآية 16)؛ فالإيمان الحقيقي بالله تعالى خالقا ورازقا، وتقواه التي تفضي إلى حبه والخوف من عاقبة معصيته، كل ذلك له الأثر البالغ في حسن التوكل عليه. وحينها لن يخذلنا سبحانه، قال تعالى: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ..." (الأعراف، الآية 96).
- الشكر لله سبحانه على نعمه الكثيرة، قال تعالى: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ..." (إبراهيم، الآية 7). والشكر إقرار بفضل المنعِم سبحانه، فهو ليس جهدي بل هو عطاء الله تعالى. والشكر يكون بالعمل لا بمجرد اللسان، ولذلك قال الله تعالى: "... اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ" (سبأ، الآية 13). فشكر أي نعمة إنما هو بالعمل؛ إذ شكر المال بإنفاقه، وشكر الصحة بالطاعة والعمل، وشكر نعمة العلم بتبليغه، وهكذا. فمن شكر الله زاده، ومن كفر نعمه فهو العذاب الشديد الذي ينتظره دنيا وآخرة.
- الأخوة الحقيقية التي ينبغي أن تكون بين المؤمنين، قال تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ..." (الحجرات، الآية 10). وقد جاءت هذه الآية بين آيات في الأخلاق عظيمة، في سورة الحجرات التي هي سورة الآداب؛ فإن كنا إخوة فينبغي أن نصلح ما بيننا من خلل، وأن نكون صفا واحدا. ومن متطلبات الأخوّة أن لا يسخر أحدنا من الآخر، ولا نلمز أنفسنا، ولا نتنابز بالألقاب، وأن نجتنب الظن السيء فيما بيننا، ولا نتجسس على بعضنا، ولا يغتب بعضنا بعضا. وهذه كلها في هذه السورة العظيمة التي بينت بعد ذلك أساس التفاضل: "... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ..." (الحجرات، الآية 13)؛ فهي التقوى والطاعة لا أي شيء آخر، تلك التي ترفع درجة أحدنا دنيا وآخرة.