لا تراهنوا على دولار أقوى

باري آيكنجرين*

نيويورك- يتوقع خبراء الاقتصاد، بلا استثناء تقريبا، ارتفاع قيمة الدولار في العام 2015 ــ وهو التوقع الذي يدفع المستثمرين إلى المبالغة في المراهنة على هذا الارتفاع. ولكن قد يتبين لنا قريباً أن استراتيجية السوق هذه كانت بمثابة خطأ بالغ الضخامة.اضافة اعلان
الواقع أن الإجماع يعكس حقيقة مفادها أن الولايات المتحدة تُعَد حالياً الاقتصاد الرئيسي الوحيد الذي يشهد تحسن توقعات النمو. ومؤخراً عَدَّلَت وزارة التجارة الأميركية تقديراتها لنمو الناتج المحلي في الربع الثالث من العام الماضي صعوداً إلى 5 % ــ وهو أعلى معدل في أحد عشر عاما.
وعلاوة على ذلك، استند هذا التنقيح في الأساس إلى الاستهلاك الشخصي والاستثمار في الأعمال التجارية ــ وهما من بين المكونات الأكثر استقراراً وثباتاً للناتج المحلي الإجمالي. فقد ارتفعت ثقة المستهلك إلى أعلى مستوياتها منذ العام 2007. وتعمل أسعار النفط المنخفضة، التي تقلل من تكلفة الغاز في محطات الخدمة، على توفير دفعة إضافية من خلال إعطاء الأسر الأميركية المزيد من المال النقدي للإنفاق الاستهلاكي. كما انخفض معدل البطالة إلى 5.6 %، ويستمر في التراجع.
وكل هذا لا يعمل على تعزيز الثقة في استمرار النمو القوي في الولايات المتحدة فحسب؛ بل إنه يعزز أيضاً الاعتقاد بأن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي سوف يبدأ في رفع أسعار الفائدة، وربما في شهر نيسان (إبريل). وبالنسبة للمستثمرين فإن هذا من شأنه أن يجعل شراء الدولارات أكثر جاذبية.
والاقتصادات الرئيسية الأخرى، على النقيض من ذلك، إما راكدة أو متباطئة أو تعيش الحالتين معا. أما اقتصاد أوروبا فهو عاجز تماماً عن المنافسة، ويلوح شبح الانكماش في الأفق كبيراً على نحو متزايد. ولأن صناع السياسات أصبحوا محرومين من أي خيارات إضافية، فمن المؤكد أن البنك المركزي الأوروبي سوف يواصل برنامج التيسير الكمي، سواء شاءت ألمانيا أو أبت. وسوف يرحب المسؤولون الأوروبيون باليورو الأضعف، وهو ما من شأنه أن يعمل على تحسين القدرة التنافسية، ولو بشكل متواضع على الأقل.
وفي آسيا من ناحية أخرى، دفعت مؤشرات الاقتصاد الياباني الصاخبة المتقطعة بنك اليابان إلى زيادة مشترياته من الأوراق المالية، وهو ما يشير على نحو مماثل إلى احتمال ضعف الين. كما تدفع علامات تباطؤ النمو الواضحة في الصين المستثمرين إلى التساؤل، للمرة الأولى منذ سنوات، ما إذا كانت حكومة الصين سوف تسعى إلى هندسة إضعاف سعر الرنمينبي في مقابل الدولار.
ولا تقل توقعات النمو في أسواق ناشئة أخرى سوءا ــ وخاصة بسبب انخفاض أسعار السلع الأساسية. ونتيجة لهذا فإن هذه البلدان من الممكن أن تتوقع تدفقات أقل من رأس المال، وهذا كفيل مرة أخرى بإضعاف قيمة العملات المحلية.
هذه هي الحجة المحكمة المفترضة التي تدعم سيناريو ارتفاع قيمة الدولار. تُرى كيف قد تنهار هذه الحجة؟
السبب الأول للشك في توقعات ارتفاع قيمة الدولار هو أن أياً من الأخبار التي تستند إليها ليست أخباراً جديدة حقا. ذلك أن توقعات النمو القوي نسبياً في الولايات المتحدة تنعكس فعلياً في الأسواق، حيث ارتفع الدولار بنسبة 9 % قياساً على أحجام التبادل التجاري منذ منتصف العام 2014.
نظراً لهذا، فإن تغيير الأساسيات فقط ــ كأن يتفوق أداء اقتصاد الولايات المتحدة على التوقعات المجمع عليها فيبدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي في تشديد السياسة النقدية قبل الموعد المتوقع، أو أن يأتي أداء اقتصادات أخرى أسوأ من المتوقع ــ من شأنه أن يدفع قيمة الدولار إلى المزيد من الارتفاع. باختصار، مع إدراج أفضل تخمينات السوق بالفعل في سعر الصرف فإن احتمالات هبوط الدولار تتعادل مع احتمالات ارتفاعه.
ويكمن الخطر الثاني في أنه حتى استناداً إلى توقعات النمو الحالية، ربما استبق المستثمرون أنفسهم في توقع تشديد السياسة النقدية. وسوف يرفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة عندما يستشعر أن الاقتصاد يقترب من تحقيق كامل طاقته وأن التضخم ــ تضخم الأجور بشكل خاص ــ يتسارع.
وسوف تشكل المشاركة في سوق العمل عنصراً أساسياً في تشكيل هذه البيئة. ففي الوقت الحالي، يمكن تفسير انخفاض معدل البطالة الرسمي جزئياً بانخفاض معدلات المشاركة، وخاصة بين العاملين الذي تتراوح أعمارهم بين 25 إلى 54 سنة.
ولكن هناك الآن من الدلائل ما يشير إلى أن معدل مشاركة هؤلاء العاملين يتجه نحو الاستقرار، بل وربما يبدأ في الارتفاع. وإذا حدث هذا فإن معدل البطالة ربما يتوقف عن الهبوط، وسوف تكون الضغوط التي قد تدفع الأجور إلى الارتفاع محدودة. وآنئذ سوف يلجأ بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى تأخير تشديد السياسة لفترة أطول من المتوقع.
أخيراً وليس آخرا، من الأهمية بمكان أن ننتبه إلى أن المشاكل المالية غير المتوقعة ــ التي قد يحفزها انخفاض أسعار النفط ــ من شأنها أن تعطل النمو الأميركي وأن تثني بنك الاحتياطي الفيدرالي عن تشديد سياساته. إن البلدان المصدرة للنفط، بما في ذلك روسيا، هي أكبر حاملي سندات الخزانة الأميركية بعد الصين واليابان. وإذا انخفضت عائدات النفط إلى مستويات أدنى، فإن هذه البلدان ربما تضطر إلى بيع حيازاتها من هذه السندات، واستخدام الدولارات للتدخل في سوق الصرف الأجنبي لدعم عملاتها أو إنقاذ بنوكها المتعثرة، مثل ترست بنك في روسيا، أو المؤسسة المتوسطة الحجم التي أنقذتها الحكومة الروسية في كانون الأول (ديسمبر).
ومن شأن هذه التطورات أن تدفع العائدات على ديون الولايات المتحدة إلى الارتفاع، فيتعطل النمو. وسوف يصبح الدولار أضعف، وهو ما من شأنه أن يُفقِد المستثمرين توازنهم. وقد تكون الاضطرابات الناجمة عن ذلك شديدة.
إن التنبؤ بقيمة العملات لعبة محفوفة بالمخاطر. ولا تعمل تحركات أسعار الصرف على مدى يقترب من سنة وفقاً لنماذج نظرية. والواقع أن سلوك أسواق العملة كان مراراً وتكراراً سبباً في إرباك بل وحتى إفلاس مستثمرين متمرسين. ومع الرهان بالكثير حالياً على تحرك السوق في اتجاه واحد، فمن الحكمة أن نتأمل في العواقب إذا حدث هذا مرة أخرى في
العام 2015.

*أستاذ في جامعة كاليفورنيا في بيركلي وجامعة كمبريدج.
خاص بـ"الغد" بالتعاون مع بروجيكت سنديكيت.