لا سلام بلا عدالة

في مقال نشرتَه في مجلة "فورين بوليسي" وتحدثت فيه عن عشر أزمات يجدر تعقبها في العام 2013، تكتب لويز آربور: "ثمة توتر (...) قائم بين الفوائد الطويلة الأجل للعدالة -تعزيز المساءلة ومعالجة المظالم ومظاهر انعدام المساواة المتراكمة- وبين الواقع الذي يمكن أن يطرح مخاطر فورية في كثير من الأحيان. ويبقى مفهوم "العدالة أو السلام" في حاجة إلى إعادة نظر وتأمل جديد، سواء في اليمن والسودان وسورية وليبيا وكينيا، أو كولومبيا..."اضافة اعلان
وفي حقيقة الأمر، كان هذا التوتر بين السكون والتغيير قائماً كل الوقت في منطقتنا العربية، وظهر بوضوح أكبر في "الربيع العربي". وكما لاحظنا، فقد استخرجت الأنظمة المهددة بالتغيير أو الإسقاط خطاب الاختيار بين "العدالة أو السلام" مثل كرت الجوكر للإيحاء بأن المطالبة بالعدالة تناظر الإخلال باستقرار المجتمعات وتعرض الناس لمخاطر الفوضى وتهدد أمنهم. وفي الأجواء الانتقالية التي أعقبت سقوط بعض الأنظمة، ظهرت فئة قليلة الصبر، تصنف على أنها "الأغلبية الصامتة"، والتي عبرت عن نفسها غالباً بالترحُّم على الدعة والاستقرار التي كانت سائدة أيام النظام السابق –أياً كان هذا النظام.
ولم يأت هذا الاعتقاد الخادع من فراغ. فطوال العقود التي عانينا فيها كل أنواع المظالم والتخلف وسرقة مقدرات الشعوب، بقينا نسمع كل الوقت وصفاً لبلداننا تشاركت فيه كل الأنظمة التي تحكمنا: "لقد جعلنا هذا البلد واحة للأمن والاستقرار". وصوروا الأمر وكأن "هدوء" دويلاتنا وصمت شعوبها هما صناعة عبقرية للحكام الذين بنوا هذه الواحات الوادعة للعرب في صحراء العالم المرعبة المميتة. ولمّا أصبح هذا عرفاً، فقد شارك الوعي الاجتماعي غير الميال إلى المغامرة في عزل أصحاب الاقتراحات الجديدة والتغييرية باعتبارهم "فوضويين" ودعاة تخريب. بل إنّ بعض البسطاء المسحوقين يشاركون البلطجية والشبيحة الهجوم على "دعاة الفوضى" المطالبين بتغيير البنى المستقرة المألوفة. كان ما قالته ثورات الشعوب العربية بوضوح هو أنّ "استقرار" دولنا المزعوم إنّما كان استقراراً للشوكة في الخاصرة. وفي الواقع، ليس الاستقرار على الضيم سلاماً ولا أمناً على المظلوم، وليس العيش مع القلق وضنك العيش والخوف واحة في الصحراء. بل إن الاستقرار في حدّ ذاته مفهوم بالغ السلبية، لأنّه نظير السكون ونقيض الحركة والحيوية والبحث والتقدم والاستكشاف. وعندما يختار الناس رمي حجر في المياه الآسنة، والمغامرة بمواجهة التداعيات المباشرة من الصدام مع البنى المستقرّة، فإنّ اليأس يكون قد بلغ منهم مبلغاً بحيث لم يعد لديهم شيء ليخسروه تقريباً. أما كون بلداننا "واحة للأمن،" فإنها كذلك، وإنما بمعنى أنها مكان مريح كثير الفيء، مثل الواحة، بالنسبة لأجهزة الأمن التي تعمل بتفويض كامل على إخضاع الناس وحماية هيكل الاستبداد الراسخ المستقرّ.
حسب رؤية لويز آربور. تستخدم الأنظمة الاستبدادية عبارة "حُكم القانون" التي ينبغي أن تكون رافعة للديمقراطية وتحييد الشخصنة ومحاسبة الجميع، لتحولها في التطبيق إلى استخدام أجهزة القانون لمضايقة الناس بدلاً من تبديد قلقهم. وبدلاً من تمكين القضاء وتحصينه، يجري استخدام القانون لتدريب وتجهيز وحدات إنفاذ القانون (أجهزة الأمن) التي تكون في عين المدنيين معنية بحمايتهم، بينما تكون فقط بالغة الكفاءة في تطبيق تقنيات القمع. وهكذا، لا يعود حكم القانون يعني المساواة أمام القانون، بقدر ما يعني فرض الثبات و"الاستقرار" وكبح التغيير.
إذا كان "الاستقرار" لا يعني العدالة في نهاية المطاف، فإنّ استعادة الأمن والسلام و"الواحات" بالشكل الذي كانت عليه لن يكون حلاً. كما أن المراهنة على أنّ تداعيات الربيع القريبة ستردع الناس عن المطالبة بالعدالة، ستكون خاسرة غالباً، لأنّ القلق القائم في حالة السكون لا يمكن تفريغه إلا بالثورة والتغيير. ولعل مما يجب أن نخشاه في بلدنا تحديداً، هو أن لا يكون "التغيير" الجاري جوهرياً، بحيث تعيد إدارة المتغيرات الحالية بطريقة تمثيلية إنتاج "الأمن والاستقرار" القديم، بما يعنيه ذلك من مضاعفة المظالم المتراكمة وتعظيم السخط وحسب. وليكن ماثلاً في البال دائماً ما يشكل حقيقة بدهية لا يمكن التملص منها ومراوغتها: إنه لا معنى أبداً للحديث عن استقرار أو سلام أو أمن، إذا كانت العدالة غائبة.