لا شؤون داخلية لدولة أو لأحد بعد اليوم

كلما جلس زعيم في بلدان العالم الثالث أو الأخير، على كرسي الحكم بانقلاب أو بانتخاب ما، بادر -متبجحاً- أنه لن يسمح لأحد، كائنا من كان، بالتدخل في الشؤون الداخلية لبلده. ويظن كثير من الناس أنه يستطيع ذلك. لكن الواقع اليوم يعمل بالعكس، فالكل يستطيعون التدخل في الشؤون الداخلية للكل، شاء أم أبى هذا الكل.اضافة اعلان
أولا: بالصلاحيات التي خولتها الدول الأعضاء لهيئة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، بدءا من الأمانة العامة للأمم المتحدة مرورا بمجلس الأمن، والجمعية العامة، ومنظمات الأمم المتحدة... ومجلس حقوق الإنسان، وانتهاء بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. إنها تستطيع جميعا أن تحاسب أو تشجب أو تستنكر سلوك أي دولة مخالفة للميثاق والمبادئ الدولية في هذه الشؤون؛ فعضوية الدولة في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية تعني -رسميا- تنازلها عن جزء من سيادتها إليها.
ثانيا: بالسفارات التي تراقب وتسجل وتتابع وتتدخل.
ثالثا: بوسائط أو وسائل الإعلام والاتصال، من صحافة ومجلات وإذاعات وقنوات فضائية وإنترنت... والتي تتدخل كلما أو عندما ترى لزوما لذلك، بالشجب والاستنكار والتعرية وتأليب الرأي العام، أو بالثناء والتقدير. ويكون التدخل قويا وفعالا إذا كان صادرا عن وسائط ووسائل متمركزة في البلدان الديمقراطية، وبخاصة في أوروبا وأميركا حيث لا تستطيع الحكومات التدخل في شؤونها.
رابعا: عن طريق المؤسسات الأهلية العالمية، مثل منظمة العفو الدولية، و"هيومان رايتس ووتش" وغيرهما، والتي نصبت نفسها سلطة أدبية ولكن فاعلة للدفاع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في زوايا الكرة الأرضية الأربع.
خامسا: عن طريق الكتاب والباحثين والفنانين الذين يصدرون الكتب ونتائج البحوث، ويصنعون الأفلام... الناقدة.
سادسا: عن طريق الشركات الاستخباراتية الاستثمارية التي تجمع أدق المعلومات عن كل دولة، لبيعها للراغبين في الاستثمار فيها.
لقد أصبح كل بلد في عصر العولمة الذي نعيش فيه أشبه بكتاب مفتوح لكل قارئ. لم يعد بقدرة دكتاتور أو نظام شمولي الاختباء والاختفاء عن الأعين، حتى وإن كان في كوريا الشمالية.
كان التدخل في الماضي مقصورا على التجسس والعدوان والاحتلال والاغتصاب. أما اليوم، فقد أصبح العالم أشبه بقرية كما يقال، لدرجة أن الفرد فيها صار مكشوفا أيضا بالهاتف الخلوي والكمبيوتر، ومعرضا للتدخل في شؤونه الداخلية من بقية سكان القرية إذا أخل بوجباته الإنسانية أو الاجتماعية أو انتهك حقوق الإنسان.
إذا أرادت الدولة أن تمنع التدخل في شؤونها الداخلية، فإن عليها الالتزام بميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي، وحقوق الإنسان، والحرية والديمقراطية (وتداول السلطة)؛ فعندئذ سيتدخل العالم في شؤونها الداخلية إيجابيا.
لقد تراجعت سيادة الدولة أو مفهوم سيادتها في العقود الأخيرة، أو على الأصح بعد الحرب العالمية الثانية؛ فلم يعد بقدرة أي دولة في العالم، بما في ذلك أميركا أو الصين، منع التدخل في شؤونها الداخلية. فلا يكبّرن حاكم الكلام من أنه لن يسمح لأي كان بالتدخل في شؤونه الداخلية، لأنه لا يستطيع.