"لا شيء يدهشني"

لا.. لا شيءَ يثيرُ حزني في هذا المساء الكئيب. ولا شيءَ يستدعي أنْ أفرحَ ضمن "الفرح العام" في الحيِّ المصابِ بالطاعون، وأمراض طفيلية لا تُرى، لا شيءَ يدفعني للبكاء إنْ تعرَّت شجرة التوت أو تخثَّرَ الزيتُ في الزيتون، ولا نية لي للحاق بغيمة بيضاء تأخّرت عن قطيع الرماديّات، أو استبقاء كفِّ امرأة في كفِّي حتى يختمر الهوى.اضافة اعلان
ولا شيء يثيرُ دهشتي في هذا الصباح الغريب، وإنْ حفلت الصحف اليومية بأخبار الرَّجل الذي عضَّ الكلب، وإنْ شاهدتُ بأمِّ عيني، وأبيها، الديمقراطية وهي تمشي على قدمين رياضيَّتين في الحيِّ المحاذي لشارع "جامعة الدول العربية"، لا شيءَ أبداً.. لا نزول الرئيس بنصف إرادة عن الكرسيِّ، ولا جلوس المعارض عليه بـ "الزفَّة البلدي".
طابور صباحي ممل من "العادة" و"الاعتياد" و"المعتاد": لا بحة جديدة في صوت فيروز وهي تنادي على "شادي" بالإيقاع ذاته منذ عشرين "ثلجة"، ولا تفعيلة ناقصة في شعرٍ يزداد غباء بصوت المذيع الذي يحثُّ العصافير على البلاهة، لا رجفة زائدة في دعاء أمي، أو معنى جديداً في شفاه حبيبتي، حتى مسار الكرة الخارجة من السور المدرسيِّ لا يحيد عن رأسي.
و"عندما يأتي المساء" بإيعاز صريحٍ من "محمد عبد الوهاب" لا شيءَ يتخلَّفُ عن دوره في كتاب الليل: اللون الأصفر ينتشر في الشوارع كبديل تجاريٍّ عن خيوط الشمس، الأزواج جالسون بضجر وقور على المقاهي حتى نوم الزوجات بعد عضِّ الشفة السفلى على "مهند" وإخوته الأتراك، خدمة "واتس آب" فعَّالة بأعطال مؤقتة لتنظيم الثرثرة على جانبيِّ النيل. ولا جديد تحت القمر؛ الشاعر المستجدُّ في الخمسين يحصي "اللايك" على قصيدة امرأة من برج العذراء!
لا.. لا شيء يهمُّني في هذه الظهيرة الكسولة كمشي امرأة تأخَّر وضع حملها: حادثُ السير الذي أفضى إلى موت السائق والراكب والماشي، إجراء ضروريٌّ لإكمال سنَّة الحياة، وتجديد سكَّان الأرض، صافرة شرطيِّ المرور تحتفظ بدلالتها ولن يتغير المعنى برفع اليد إلى الأعلى ليفيد أن السيارة قد وقعت في مصيدة التسلل، المرأة التي تستكملُ زينَتها في المقعد الخلفيِّ بسيارة الأجرة تمهِّدُ لأنْ يعفيها السائق من ضريبة الرفاهية. لا شيءَ أكثر، لا شيء أقل، ونصاب "لمَّة" الخيَّالة مكتملٌ منذ ثلاثة قرون بين العصر والمغرب!
لا شيء يُدهشني. لا عودة "شادي"، ولا استبدال الإذاعة لـ "جبران" بـ "درويش"، لا ولا حَمْل رقيبِ السَّيْر لعصا الناي، ولا خروج "عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة" من شفاه حبيبتي. لا شيء يستفزُّني لا صبيٌّ فيسبوكي لم يصعد درجة موسيقية يسخر من "عبد الحليم حافظ"، ولا مغناجة تقلِّد كبرياء "أم كلثوم"، ولا شيء يبهرني حتى صوت ناظم الغزالي في "سي دي"، ولا شيءَ يُحيِّرني لا اختفاء الطائرة الماليزية، ولا ضلوع "أحمد عز" بإنجاب توأم "زينة". ولا شيء يروقني حتى فوز منتخب "كوت ديفوار" الأسود بكأس العالم، ولا شيء يضحكني حتى الخبر الساخر عن هنديٍّ، بجينات عربية، لا يمشي إلا إلى الخلف منذ خمسة وعشرين عاماً!
"لا شيء"؛ فكلُّ ما حدث صارَ عادياً مع مرور نشرات الأخبار، وقابلاً للتكرار بحذافيره المملَّة في الموجز اللاحق، و"لا شيءَ" أيضاً، فكلُّ ما يحدث "متوقعٌ" و"معروفٌ" و"مفروغ منه"، و"لا بديلَ عنه"، و"لا شيء" كذلك، فكلُّ ما لم يحدث محتملٌ كمنخفض جويٍّ كاذب، ومفتوحٌ على التأويل كامرأة من برج العذراء، وملتبسٌ كعبارة "شاهدتُ هذا الفيلم من قبل". لا شيءَ يُدهشني، أبداً، يا حبيبتي، سوى صوتكِ في شريط الكاسيت الذي له لون الشاي بالحليب، وأنتِ تخبريني بجرأة لم تكن متاحة لمراهقَيْن في العام الثالث بعد ميلاد "الفاكس":"حبيبي اختَمَر الهوى"!