لا مكان للديمقراطيين في العراق

تُعمي الطائفية عن حقائق الواقع المعاش، تماما كما تُنسي حقائق التاريخ، قريبا أو بعيدا. فما جرى في الموصل هو هيمنة لتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، وفورا وبلا حساسيات يستدعى التدخل الأجنبي لحماية العراق من الإرهاب. فتدخل قوات النخبة في الحرس الثوري الإيراني على مرأى من عيون الأميركيين إلى العراق، وتحتفل قنوات "المقاومة" بسرعة تزويد الإدارة الأميركية لجيش المالكي بـ"الأباتشي" وطائرات من دون طيار. وفي الأثناء، يعلن قاسم سليماني أن كربلاء خط أحمر، لو تم تجاوزه "فإننا سنجرب صواريخنا بهم"؛ متناسيا أن القدس محتلة، وكذا الجولان.اضافة اعلان
في العمى الطائفي لا يسأل لماذا انهار جيش المالكي الجرار أمام تنظيم "إرهابي معزول" في ساعات، ولماذا استقبل أهالي الموصل وتكريت وديالى هذا التنظيم بالاحتفالات، ولماذا يبقى السنة العرب في بغداد مترقبين لأي قوة تخلصهم من حكم المالكي، سواء كان أبو بكر البغدادي أو باراك أوباما؟
طبعا، حماة وحدة العراق والليبرالية والمجتمع المدني ومقاومو الإرهاب والتدخل الأجنبي، صمتوا صمت القبور لسنوات أمام التمزيق الطائفي الذي كان يمارس بشكل منهجي هناك.
المفارقة أن الأميركيين الذين جاؤوا بالمالكي تعافى بعضهم من العمى الطائفي، ولم يعودوا ينظرون إلى السنة باعتبارهم بقايا نظام صدام أو "القاعدة".
فقد كتب المعلق الأميركي في صحيفة "واشنطن بوست"، ديفيد إغناتيوس، عن "النصر الحاسم والمثير للدهشة الذي حققه مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وقال إنه يحمل رسالة سياسية مهمة مفادها "مسؤولية رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عن الكارثة".
لم يصدم الأميركيون بصورة المالكي الطائفي الانقسامي الدموي، فهم يعرفونه جيدا. وقد سخر موارد العراق الضخمة في برنامج تطهير طائفي للبلاد. وهذا لم يستفز الأميركيين، بل جددوا الثقة به وبالتعاون مع إيران، وقاموا عمليا بتزوير إعادة انتخابه رغم فوز حليفهم القديم، السياسي العلماني إياد علاوي. أما ما صدم الأميركيين فهي صورة المالكي مهزوما بعد إنفاق مليارات الدولارات على تسليح جيشه وتدريبه.
ولم يصدم الأميركيون بصورة أبي بكر البغدادي، فقد اعتقل عندهم خمس سنوات. لكن ما صدمهم هو انتصاره المدوي. وفي السجن تشكلت شخصية البغدادي الذي يعتبر امتدادا لمدرسة أبي مصعب الزرقاوي أكثر منه امتدادا لمدرسة أسامة بن لادن. فهو يتبنى خطا دمويا متشددا مع الخصوم وخصوصا الشيعة، ولا يتساهل مع خصومه من السنة أيضا. وفي خلافه مع رفاقه في "النصرة" مؤشر على ذلك.
ما يقال في البغدادي، سواء كان صحيحا أم  افتراء، لا يختلف عما يقال في المالكي وباقي الساسة العراقيين، مع فارق جوهري هو أن البغدادي لا يخفي أفكاره وتطلعاته مهما كانت متطرفة.
لم يمثل المالكي بالنسبة للعرب السنة زعيما للعراق، بل زعيم فئة متغلبة. لم تكن الموصل تنعم بالدولة ممثلة في الحماية والرعاية، بل تحولت الدولة وخصوصا بعد الاعتصامات السلمية مع موجة "الربيع العربي"، إلى قوة تمارس القهر والإذلال. وعندما عثر أبناء الموصل على تنظيم مسلح طائفي يقاوم النظام الطائفي، انخرطوا فيه وأمنوا له الحاضنة الاجتماعية، ولذا تمكن من التحرك أشهرا بحرية، وتوجيه ضربة قاضية خاطفة للقوة العسكرية التي تسيطر على المدينة. وما حصل في الموصل قد يتكرر في بغداد التي تعاني ظلما أشد وأنكى، حيث ثمة أحياء محاصرة بالأسوار العازلة والسيطرات، ومستباحة من المليشيات.
بالنتيجة، لا مكان في العراق للديمقراطيين والمؤمنين بقيمها، حرية وعدالة وسلمية ومواطنة؛ هو ساحة حرب يتسيد فيها الأكثر صبرا على القتال من قادة المليشيات.