لتوراتهم ينكرون مع أنهم بها يستشهدون

كل من يقرأ التوراة أو العهد القديم بالذات، ولكن بتفكير محايد وقلب سليم، سرعان ما يجد أنها تتحدث عن أرض كنعان أو فلسطين التي اغتصبها اليهود البدو الرحل، من أهلها المتحضرين الكنعانيين والفلسطينيين، بعد مذابح للبشر والبقر والدجاج.. بدءا من أريحا مرورا بعاي، وانتهاء بعشرات المدن والقرى الكنعانية الفلسطينية. وعندما سئل بيريز مرة: ألا تنسون المحرقة؟ فقال: لم ننس السبي البابلي، فكيف ننسى المحرقة؟! أما نحن، فقد نسينا مذابحهم في فلسطين ولبنان ومصر في الأمس القريب، فكيف نتذكر مذابحهم في أريحا وعاي وعجلون؟اضافة اعلان
سيجد القارئ المحايد الذي لا يؤوّل الدين لتشريع الاغتصاب والمذابح، أن دولتي يهوذا التي عاصمتها أورشليم (القدس)، وإسرائيل التي كانت عاصمتها شكيم (نابلس)، تحاربتا فيما بينهما أكثر مما حاربتا الشعب الكنعاني الفلسطيني الذي تمسك بأرضه، ولم تستطع الدولتان طرده منها، وقد بقي فيها بعد أن قضى سرجون الثاني العراقي على إسرائيل العام 721 ق.م، ونبوخذ نصر الثاني العراقي على يهوذا وسبى سكانها اليهود إلى بابل (السبي البابلي) العام 586 ق.م؛ حيث بقوا في العراق لنحو سبعين سنة جرى بعدها احتلال فارس للعراق، وإعادة اليهود إلى فلسطين، وكأن الفرس القدماء انتقموا لليهود من العراقيين، مثلما انتقم الأميركيون لهم اليوم باحتلال العراق وتدميره العام 2003، لما كان يشكله من تهديد وجودي لإسرائيل.
في عد جديد أدق مما فعلته ونشرته في وقت سابق، يرد ذكر الكنعانيين في التوراة مائة وخمسا وستين مرة، والفلسطينيين مائتين وخمسا وتسعين مرة، في حالات من المد والجزر والحرب والسلم بينهما. ويشكل العددان للعقل المحايد والقلب السليم، أبلغ دليل وأقوى شهادة يهودية (مسيحية) توراتية على أسبقية وجود الشعب الكنعاني الفلسطيني المتحضر مقارنة بيهود ذلك الزمان على تلك الأرض، وامتلاكه لها بآلاف السنين قبل الغزو اليهودي الأول، واستمراره بعده في الوجود عليها لآلاف أخرى، وإلى اليوم.
أعجب كثيرا من القادة والساسة والكتاب والإعلاميين الذين لا يلتقطون الدليل على زيف أو أكذوبة الرواية الصهيونية من التوراة نفسها! فمن فمِهم نُدينهم؛ فهم لتوراتهم ينكرون، مع أنهم ليلا نهارا وانتقائيا بها يستشهدون.
لقد احتل الأتراك العثمانيون، مثلا، القسطنطينية -عاصمة الإمبراطورية الرومانية المقدسة اليونانية الهوية- العام 1453. ومع أنه لم يمر على احتلال أقدس مدينة أرثوذكسية سوى ربع الزمن الذي مضى على الاحتلال اليهودي الأول لفلسطين، إلا أن اليونان لم تعد تطالب باسترجاع مدينتها المقدسة، لأن الوجود اليوناني فيها لم يكن سوى مرحلة من مراحل تاريخ المدينة. غير أنه لما ظهرت المسألة اليهودية في أوروبا واشتدت في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، نتيجة الاضطهاد والمذابح التي تعرّضوا لها في شرق أوروبا وروسيا، أخذ قادتهم العلمانيون يفكرون بالهرب إلى مكان يقيمون دولة فيه. وقد قرروا في مؤتمر بال في سويسرا، العام 1897، اختيار فلسطين لارتباطهم التوراتي بها، وبحجة أنها أرض بلا شعب، وهم شعبٌ بلا أرض.
في أثناء هذا التاريخ، لم ينقرض الشعب الكنعاني الفلسطيني؛ فقد ظلّ في فلسطين، ولكنه تبنى من آن لآخر لغات وثقافات وأديان الإمبراطوريات التي احتلت أرضه، مثَله في ذلك مثل أي شعب آخر. وأخيرا، صار عربي اللسان والثقافة والدين، ولنحو أربعة عشر قرنا إلى اليوم. لكن ما بالك في تلك التواريخ السخيفة المعتمدة على الرواية الشفهية التي تجعل كل عائلة وقبيلة وعشيرة أصلية في بلاد الشام آتية من الجزيرة العربية، وكأن البلاد كانت فارغة تماما من سكانها الأصليين عندما بدأت الفتوحات العربية الإسلامية! فلا يفكر كتاب هذه التواريخ أن كثيرا من سكان هذه البلاد انتسبوا كموال لعائلات وقبائل الفاتحين العرب، مثل غيرهم في البلاد الأخرى المفتوحة، كي يحظوا بالفرصة؛ وأن نسبتهم إثر ذلك إلى قبائل الجزيرة العربية يضفي المصداقية على الرواية اليهودية، من أن "عرب" فلسطين ما هم إلا وافدون للعمل فيها يرفضون العودة إلى بلادهم.
الخلاصة، أن فترة وجود اليهود في فلسطين، قديما وحديثا، لا تزيد عن خمسة إلى ستة في المائة من مجموع تاريخ فلسطين الكنعاني الفلسطيني. وهي تساوي نسبة ما ملكوه من أرض فلسطين حتى العام 1948.