لعبة الأثرياء: المعركة المتواصلة ضد الملاذات الضريبية

فتاة مشاركة في حملة إعلانية لشركة "أبل" التي طالتها وثائق "أوراق الجنة" - (أرشيفية)
فتاة مشاركة في حملة إعلانية لشركة "أبل" التي طالتها وثائق "أوراق الجنة" - (أرشيفية)

كريستيان رييرمان - (ديرشبيغل) 10/11/2017

ترجمة: عبد الرحمن الحسيني

تعرض "أوراق الجنة" النظرة الأحدث وحسب إلى الممارسة المنتشرة على نطاق واسع للتهرب من دفع الضريبة. وقد اتخذت الحكومات في مختلف أنحاء العالم خطوات مؤخراً لوقف مثل هذه الاستراتيجيات، لكن من غير الواضح ما إذا كانت هذه الخطوات ستكلل بالنجاح في نهاية المطاف.اضافة اعلان
*   *   *
في وقت مبكر من الأسبوع الماضي، صُدم العالم المالي بالتكشفات الأحدث عن الخدع الضريبية التي تستخدمها المؤسسات والأثرياء الكبار في جميع أنحاء العالم. وكانت التسريبات التي تضمنت الكشف عن 13.4 مليون وثيقة، وأعطيت اسم "أوراق الجنة"، نتاجاً لعمل تجمُّع استقصائي دولي، والذي ضم صحفيين من الصحيفة اليومية الألمانية النافذة "سادوتشي زايتونغ".
تشبه الحالات التي ميط اللثام عنها أخيراً تلك الحالات التي كان قد تم الكشف عنها في التسريب السابق، المسمى "أوراق بنما"، والتي تسببت في إثارة غضب عالمي في العام الماضي. وتصف البيانات الواردة في الوثائق الكيفية التي يحاول من خلالها الأثرياء وفائقو الثراء والنجوم الدوليون والشركات تجنب دفع الضرائب في بلادهم. إنها لعبة الأثرياء.
عادة ما يكون اللاعبون هم الشركات متعددة الجنسيات التي تسعى إلى تقليص فواتيرها الضريبية من خلال استخدام هياكل التفافية. وتقف عملاقة التكنولوجيا، شركة "أبل"، مرة أخرى متهمة بالاحتيال، وكذلك تفعل منتجة السلع الرياضية، شركة "نايكي". والمتورطون في جزئهم الأعظم هم أنفسهم. وتشتمل الصفقات موضوع البحث بشكل ثابت على ملاذات ضريبية مثل جزيرة برمودا، والتبعيات البريطانية مثل جزيرة مان أو جيرزي، ودول أوروبية مثل هولندا ولكسمبورغ وأيرلندا.
كما أن الأسئلة التي تواجه الساسة هي نفس الأسئلة التي تخرج بعد كل تسريب كبير جديد: كيف يمكننا التسامح مع استمرار وضع لم يتم فيه إغلاق الثغرات الضريبية؟ ولماذا ما يزال يسمح للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بخداع شركائها في داخل التكتل في مسألة العوائد الضريبية؟
يمكن تفهم مشاعر السخط، ولو أنه يأتي متأخراً وبعد انتهاء تاريخ الصلاحية في العديد من النقاط. ما كانت العديد من استراتيجيات التهرب الضريبي لتعمل اليوم لو أن بلداناً عديدة رصّت صفوفها للقضاء على الثغرات القانونية الضريبية. وتشبه المخالفات التي فضحتها أوراق بنما وأوراق الجنة أحياناً النظر في مرآة الرؤية الخلفية في المركبة.
لكن من الصحيح أيضاً أن إغلاق كل الثغرات القانونية القائمة هو عملية سياسية متعبة، وأحياناً محبطة، حيث تكون المصالح الاقتصادية للبلدان المتورطة متباينة جداً بحيث يصعب ضمان الرضا العالمي. ومع ذلك، ثمة العديد من التطورات الإيجابية. فهناك تعاون بين السلطات المالية في عشرات البلدان يجري حالياً على مستويات متعددة. وعلى سبيل المثال، تعمل أكبر البلدان الصناعية والبلدان النامية معاً الآن في إطار مجموعة الـ20 على صعيد ما تدعى مبادرة "تآكل القاعدة ونقل الأرباح". ولم يعد يُسمح للبلدان المشاركة بالانتظار حتى تُسأل، وإنما يجب عليها تقديم معلومات مالية للشركاء المشاركين. وما يزال هذا القانون قيد العمل منذ أيلول (سبتمبر) الماضي حيث انضم 50 بلداً أصلاً، بينما ثمة 50 بلداً آخر تخطط للانضمام.
عوائق أمام نقل الربح
من المفترض أن تجعل الاتفاقيات الدولية من الأكثر صعوبة على الشركات نقل الأرباح من بلد إلى آخر في جهد لدفع أدنى معدل ضريبي ممكن. والوسيلة الأكثر شيوعاً لعمل ذلك بين الشركات المتعددة الجنسيات هي تقاضي "رسوم إدارة" مضخمة ورسوم منح ترخيص الماركة للشركات الفرعية.
كما تم تقديم سجل دولي للإعلان عن مالكي الشركات، بمن فيهم أولئك الذين يشاركون في نماذج التوفير الضريبية. ومن شأن ذلك أن يخلق الشفافية، على الرغم من أنه لا يقطع البعد الكافي للوصول بالنسبة للإدارة المنصرفة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل. وكانت برلين قد أرادت مبدئياً إحصاء كل الشركات والأفراد الذين استفادوا من الهياكل. لكن بريطانيا وهولندا عارضتا الاقتراح الخاص بتأسيس مثل هذا السجل الموسع. ولم يكن بإمكان وزير المالية الألماني السابق، ولفغانغ شوبل، وحلفائه من الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي فعل شيء نظراً لوجوب تمرير القرارات الخاصة بالقضايا الضريبية بالإجماع داخل التكتل.
يفسر ذلك أيضاً لماذا لا يوجد معدل ضريبي شامل وموحد في الحد الأدنى للشركات في الاتحاد الأوروبي، وهو شيء غريب بالنظر إلى أنه كان قد تم الاتفاق على معدلات الحد الأدنى في أوروبا بالنسبة لضرائب التبغ وضريبة القيمة المضافة. وفي كلتا الحالتين، قد لا تقل الضرائب التي فرضتها الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عن المستوى المقرر مسبقاً. لكن بلداناً مثل مالطا، على سبيل المثال، تمنع إقرار معدل ضريبة موحد في الحد الأدنى في أوروبا.
ويعرف عن هذا البلد الذي يقع في البحر الأبيض المتوسط أيضاً بأنه يحاول إغراء مالكي الشركات الأصغر بفتح فروع في الجزيرة. وإذا فعلوا ذلك، فإن المداخيل التي تصل إلى خمسة ملايين يورو في العام تخضع لضريبة 15 في المائة. وأي شيء فوق ذلك يعتبر معفى من الضريبة.
استطاع المعارضون لإجراءات تفادي دفع الضريبة إغلاق ثغرة قانونية ضئيلة واحدة فقط. وفي الفترة الأخيرة، تم تطبيق معدل ضريبة غير رسمي بالحد الأدنى على ما تدعى صناديق الترخيص. ويتضمن هذا النموذج الإعلان المنفصل عن الدخل من جانب أصحاب البراءة، وهو دخل يخضع تالياً لمعدل ضريبة أقل. وفي إيرلندا وهولندا، يخضع هذا الدخل إلى نصف المعدل الضريبي الموحد العادي. ومع ذلك، فإن المشكلة تكمن في أن قانون الاتحاد الأوروبي يلتزم الصمت حيال ما يجب أن يكون عليه معدل الحد الأدنى من الضريبة الموحدة.
حتى الآن، تم وقف طرح مبادرة شفافة إضافية بسبب معارضة الولايات المتحدة واليابان. وتركز المبادرة على دفعات الضرائب التي تدفعها الشركات الناشطة دولياً في بلدانها الأصلية. وحتى الآن، فإن سلطات الضرائب في البلدان المتورطة فقط هي القادرة على معرفة أين تفرض الضريبة على الشركات وكم تدفع. وتعارض كل من واشنطن وطوكيو تعميم هذه المعلومات.
لدى خبراء الضريبة في الحكومة الألمانية تفهم للخصائص القومية عندما يتعلق الأمر بمثل هذه القوانين. ويقول أحد هؤلاء الخبراء "الأمر كما لو أنه يتم في حياتك الخاصة".
الولايات المتحدة غير المتحمسة
في الوقت الحالي، لا تتم متابعة مسعى إقرار مبادرة الشفافية، ببساطة لأن أي محاولة لتنفيذها عنوة سوف تكون محاولة عقيمة. وإذا وافقت كل البلدان المتبقية على خطوات أكثر توسعاً، فإن الولايات المتحدة واليابان سوف تنسحبان ببساطة من الصفقة الحالية. وسوف يكون الضرر الناجم أكبر من القيمة المضافة.
ثمة طريقة أخرى لقطع الطريق على الملاذات الضريبية، والتي تكمن في التنافس معها. لكن هذا الخيار غير واقعي بالنسبة للاقتصادات الأضخم. وبالنسبة للبلدان التي تتوافر بالكاد على أي صناعة، مثل مالطا وقبرص، يظل من الأجدر لها اجتذاب أرباح أجنبية بمعدلات ضريبة منخفضة. لكن البلدان الأكبر التي لها قواعد صناعية راسخة، سوف تفقد أموالاً في نهاية المطاف. ويترتب عليها، بعد كل شيء، عرض معدلات ضريبة أخفض للشركات الأجنبية ولشركاتها المحلية أيضاً، مما يعني أنها سوف تخسر المزيد من العوائد مقارنة بما سوف تكسبه.
ومما يجعل المعركة ضد الثغرات القانونية في الضريبة حتى أكثر صعوبة على الإغلاق، حقيقة أن أكبر اقتصاد في العالم، الولايات المتحدة، لا يبدي حماسة عندما يتعلق الأمر بمكافحة الملاذات الضريبية. وتقدم ولاية ديلاوير موطناً مجهولاً لمئات الآلاف من الشركات الوهمية. وما تزال الحكومات الأميركية -ديمقراطية كانت أو جمهورية- تبدي منذ عدة أعوام تساهلاً عندما يتعلق الأمر بمراوغة الشركات المتعددة الجنسيات لرجل الضريبة، على الرغم من حقيقة أن الولايات المتحدة نفسها هي التي تتعرض للغش بالخدع التي تمارسها شركات مثل "غوغل" و"أبل" و"أمازون" وغيرها.
يجب أن تتدفق العوائد الضريبية من الشركات الأميركية متعددة الجنسيات إلى داخل صناديق الولايات المتحدة، تماماً مثلما تفرض الحكومة الألمانية ضريبة على كل الأرباح التي تجنيها الشركات الألمانية المصنعة للسيارات على سبيل المثال. وتنص عقيدة الضريبة العالمية، بعد كل شيء، على وجوب فرض الضرائب في البلد الذي يتم فيه تصنيع المنتج.
لكن قانون الضريبة الأميركي ظل يحافظ على مدى عقود على ثغرة قانونية لصالح الشركات الأميركية. ويسمح القانون لهذه الشركات بأن تضع ممتلكاتها الفكرية –في شكل براءات الاختراع والتراخيص أو حقوق الأفلام- لدى فروعها وراء البحار، مما يعني أن تلك الفروع تخضع للضريبة في البلدان التي تتمركز فيها. وذلك يفسر لماذا لم تقرر شركة "أبل"، كما يلمح تسريب الوثيقة الجديدة، دفع الضرائب على أرباحها في الوطن بمجرد إغلاق ثغرة قانونية إيرلندية. لكن الشركة سعت، بدلاً من ذلك، إلى تأمين ملاذات ضريبة آمنة قد تقدم لها موطناً جديداً.
عملية شاقة
 لماذا تسمح الحكومة الأميركية بحدوث هذا؟ ولماذا لا تقوم بإغلاق هذه الثغرة القانونية المعروفة منذ طويل وقت؟ ثمة سببان. في السابق كان التنظيم قد تأسس للحيلولة دون أن تخسر الولايات المتحدة أموالاً. وبعد كل شيء، إذا لم تكن الشركات مضطرة إلى لدفع الضرائب عن أرباحها في الوطن، فإنها لن تستطيع أيضاً الاستفادة من الخصومات عندما تخسر الأموال. ولكن، عندما أثبتت الشركات فائقة الابتكار أنها مربحة في نهاية المطاف، لم تقم السلطات الضريبية بإقفال الثغرة القانونية. وقد رأت الحكومة الأميركية دائماً في ذلك نوعاً من معونة تصدير للشركات المحلية. وبالنسبة لواشنطن، يعتبر نفوذ الشركات الأميركية في الخارج أكثر أهمية من خسارة مليارات الدولارات في شكل عوائد ضريبة.
وإذن، هل يعتبر القتال ضد ملاذات الضريبة ضرباً من العبث؟ ليس بالضرورة، لكنها عملية شاقة لا تأتي بنتائج سريعة.
بمجرد أن يتم استكمال المفاوضات على تشكيل الائتلاف الحكومي في ألمانيا، سوف يكون أمام حكومة ميركل الجديدة القليل من الخيارات للاستمرار في عمل ما تستطيعه لوقف تدفق الأموال إلى الملاذات الضريبية حول العالم. ويعتقد بعض المشاركين في هذه المفاوضات بأن ألمانيا تتوافر على عدد من الأدوات المتاحة لممارسة ضغط على الملاذات الضريبية. وأحد هؤلاء هو وولفغنغ كوبيكي، نائب رئيس حزب الديمقراطيين الأحرار الصديق للنشاطات التجارية، والذي قد يصبح وزير مالية ألمانيا التالي -حتى أنه يعتقد بأن بإمكان برلين حل بعض المشاكل من جانب واحد بهذا الخصوص.
بغض النظر عمن سيتولى حقيبة المالية، فإنه يجب عليه تركيز معظم الجهود على إقناع شركاء الاتحاد الأوروبي بالتوقف عن عرض مزايا ضريبية غير لائقة. وإقناع الولايات المتحدة بالشيء نفسه. لأنه -تماماً كما هو الحال مع تغير المناخ- من دون موافقة أضخم اقتصاد في العالم، فإن القليل سوف يتغير.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Ongoing Battle against Tax Havens