"لعلهم يرشدون"

د. محمد المجالي*

ما أزال في تعجب من ذكر كلمة "يرشدون" في فاصلة الآية المتحدثة عن الدعاء بين آيات الصيام، وهي قوله تعالى: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون" (البقرة، الآية 186). وللعلم، فقد وردت كلمة "رشد"، بمشتقاتها، 19 مرة في 10 كلمات في القرآن الكريم، وغالب معناها يدور حول حسن التصرف والتدبير والاستقامة والحق والصواب ووضوح الهدى والإيمان، أما كلماتها فهي: يرشدون، الرشد، رُشْدًا، رَشَدًا، مُرشدًا، رشيد، الراشدون، الرشاد، الرشيد، رشيد.اضافة اعلان
ويأتي هذا التعليل "لعلهم يرشدون"، بعد تعليلين آخرين في آيات الصيام، هما "لعلكم تتقون"، و "لعلكم تشكرون". وجاء بعد هذه الآية تعليل كالأول، لكن بصيغة "لعلهم يتقون"؛ فهي التقوى والشكر والرشد، كلها في آيات خمس متحدثة عن الصيام بما فيها آية الدعاء هذه. فلماذا تأتي هذه الآية هنا وسط آيات الصيام؟
أجاب العلماء بما يفيد أنّ مِن آكد أوقات استجابة الدعاء هو وقت الصيام. وأنا أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. إذ الصيام غايته النهائية الوصول بصاحبه إلى التقوى، وهو مطالب بشكر الله تعالى على نعمه الكثيرة، ومنها هذه التشريعية، بما فيها مبدأ التيسير. وهناك ما له علاقة بتهذيب سلوك الإنسان واستشعار قيمته والعناية بروحه وصفاء نفسه، وهذا يتحقق مع الصيام بتلك الثقة بالله تعالى وحسن الظن به، واستشعار معيته وعنايته بعباده، فيَحْسُنُ الدعاء ويُتَأمَّلُ الرجاء بالله تعالى، وهذا من كمال رشد الإنسان.
إن الله تعالى لا يريد بالإنسان أكثر من أن يعرف مصلحته ويهتدي إلى الصراط المستقيم؛ بأن يحافظ على الفطرة التي فُطِر عليها. ولا شك أن هذه الدنيا دار ابتلاء واختبار، وقد حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات. وبيّن سبحانه سنة الابتلاء هذه في أكثر من موضع، كقوله "ولنبلونكم..."، فلا بد من رشد مرتبط بعقل صاف ونفس مطمئنة واثقة بربها، تحسن الظن به وتطلب العون منه، فهو سبحانه قريب يجيب دعوة الداع إذا دعاه، هو الغني ونحن الفقراء إليه، وهذا من أروع صور العبودية لله تعالى، حين يُظهِر العبد المسكنة لله تعالى، فذلُّ العبد لله عز وقوة، وعبوديته له حريةٌ وإشراقة روح، وهكذا شأن معية الله وحبه والثقة به والركون والالتجاء إليه.
كم من بالغ ليس بعاقل أو راشد؛ لا يحسن التصرف ولا ينتبه إلى عواقب الأمور ومآلاتها، لا يفكر بأبعد من يومه ولا يرى أبعد من أرنبة أنفه، تائه في شهواته مغرور ببعض ما آتاه الله إياه، ليس بصاحب مسؤولية ولا اهتمام بنفسه ناهيك عن مجتمعه وأمته. فالرشد شيء نتطلع إليه جميعا، ومما يبنيه الصيام المشكِّل لصفاء النفس وارتقاء الروح، ليؤهلها لخالص الدعاء لله تعالى وحسن الظن به، حينها يتعرف العبد على الله عن قرب. وإذا وجد أحدُنا اللهَ فماذا فقد؟ وإن فقد اللهَ فماذا وجد؟
إن أمتنا لا تحتاج عددا ولا مساجد أو حجابا أو لحى أو ثروات، إنها بحاجة إلى النوع الراشد العاقل المسؤول. وقد ذكر الله تعالى مفهوم الرجل بأمة، فقال عن إبراهيم عليه السلام "إن إبراهيم كان أمة" (النحل، الآية 120). وهكذا شأن أولي العزم والنهى والرشد، الواحد بأمة، أو على الأقل له قيمة ومبدأ ورسالة يعيش من أجلها، لا مجرد هائم على وجهه، تافه عالة على الأمة، وهو وصف الغثائية إياه الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم، حين تصبح الأمة كالقصعة تتداعى عليها الأمم الأخرى، ليس من قلة، بل لأننا حينها غثاء كغثاء السيل. فما فائدة الكثرة إن لم تكن راشدة عاقلة مؤمنة مبصرة؟! وما أسوأ ما سأذكره من مثال حول اليهود الذين لا يزيد عددهم على خمسة عشر مليونا، لكنهم يتحكمون –بغض النظر عن وسائلهم التي تسوّغ غاياتهم- في العالم كله.
آن للصيام ومدرسته أن يخرّج أجيال الرشد والتقوى والمسؤولية، أن نستشعر في مدرسته نتائج نرجو ديمومتها، حيث علو الهمة وصنع الإرادة ولجم النفس عن غيها وشهواتها، ثم خُلُق الصبر الذي نحتاجه في حياتنا كلها، باعتبار أن الدنيا بين سراء أو ضراء.
إنه الدعاء المشعر للعبد بحسن الظن بالله، وأن الله وحده هو القادر على كل شيء، وليست هناك أي واسطة بينك وبينه، فهو قريب يجيب دعوة الداع إذا دعاه، والإسلام بهذا يلغي عقائد فاسدة سمحت بوجود واسطة بين العبد وربه، فكلنا مع الله عبيد، ولا يملك أحد حق الواسطة بينك وبين ربك، فادعه واستغفره وتب إليه واطلب منه ما تشاء، بينك وبينه مباشرة، علانية وسرا، ليلاً أو نهارا.
ومن عجيب الأمر في الآيات التي فيها سؤال أن الله سبحانه يوجه نبيه صلى الله عليه وسلم للإجابة، من مثل قوله تعالى "يسألونك... قل"، أي قل لهم يا محمد كذا وكذا، إلا هنا، فقد ألغى الله تعالى هذه الـ"قل"، فهي بالدعاء مسألة مباشرة بين العبد وربه.
الرشد منزلة نريدها لأنفسنا ونحن نحقق غايات الصيام الروحية. وأذكِّر أولئك الذين يربطون الصيام بمجرد الامتناع عن الأكل والشرب والشهوة، إنه زيادة على ذلك اعتناء بهذه الروح وغذاء لها، فحرمان الجسد غذاء للروح التي طالما نقصر معها ونميل مع الجسد على حسابها، ونحن بالروح لا بالجسم، فهلا تعرفنا على قيمتنا الحقيقية وبلغنا الرشد وكنا من الذين يرشدون؟

*عميد كلية الدراسات العليا في الجامعة الأردنية