لكن أين "هيكل الأردن"؟!

عندما كتب محمد حسنين هيكل قبل عقد من الزمن، ما ردده مؤخراً على فضائية الجزيرة، ضد الحكم في الأردن، بعد وفاة الراحل الحسين بن طلال بأيام قليلة، طلب مسؤولون رفيعون من مثقف ومؤرخ أردني، يحظى باحترام  واسع في الأوساط الأكاديمية والمثقفة العربية، الرد على هيكل فأجابهم: "مكِّنوني من المعلومات والوثائق التي حصل عليها، كي أقدّم مرافعة تاريخية أقوى من مرافعته، وأرد عليه".

اضافة اعلان

مرارة جواب صديقنا تتملّك الكثيرين، الذين تواصلوا معي أمس كتابةً ومحادثةً، إذ يشعرون بالأسى على عجز المؤسسات الإعلامية والثقافية الوطنية والإفقار الواضح لها من الطاقات والمواهب المبدعة إدارياً وإعلامياً.

اليوم، نحتاج إلى وقفة حقيقية مع حالة الإعلام الوطني، وعلى المسؤولين في "مطبخ القرار" التنبه لأهمية امتلاك مؤسسات إعلامية مهنية معتبرة، تجتذب المواطن الأردني أولاً، وتبحث عن المواطن العربي ثانياً، هذا الأمر ممكن، لكن فقط عندما يتراجع المسؤولون عن حكم الإعدام الذي أصدروه هم على إعلامنا الوطني وتلفزيوننا المحلي، مكتفين بنفض اليدين تاركين لفضائية الجزيرة والصحف العربية والعبرية ملء الفراغ!

جواب المسؤولين، المكرر، "أنّنا لا نملك الموارد المالية الكافية لمحطة تلفزيونية متقدمة"، وهذا جزء من المشكلة، وليس بيت القصيد! يمكن تعويض نقص الموارد المالية بإعادة هيكلة التلفزيون ومنحه سقفاً حقيقياً من الحرية والاستقلالية، وتمكين إدارة كفؤة مؤهلة من الارتقاء به، وصولاً إلى توفير موارد مالية ذاتية ممكنة عبر الإعلانات والحجوزات الهوائية.

لماذا يجد المواطن الأردني ضالته في "فضائية الجزيرة"، لا في تلفزيونه المحلي، ولماذا نتجاوز عن بناء تصور واضح للمجالات التي يمكن بالفعل أن يتميز فيها التلفزيون، ويكون جاذباً لا طارداً للمشاهدين.

المشكلة الحقيقية هي في عدم وجود الإرادة الصارمة بتمكين القيادات الإعلامية من بناء المؤسسات المطلوبة، ومنحها قدراً أكبر من الموارد المالية والحرية في تشكيل المؤسسات وتوفير الظروف المناسبة للإبداع، ما يتناسب مع خطورة الإعلام وأهميته في السياسات الخارجية وفي لعبة الرأي العام اليوم.

على الطرف الآخر، المطلوب التفكير جدياً بإعادة النظر في العلاقة بين الحكومة والإعلام، والتحرر من صيغة "شاعر القبيلة" و"ساعي البريد" إلى اعتماد نموذج إعلامي مختلف يقوم على تمكين إعلاميين ومثقفين وكتاب من المعلومات والأسرار، والتواصل معهم واستشارتهم، مع حماية المسافة المستقلة لهم عن الحكومة، واحترام مساحة النقد المشروعة، التي تمنح هؤلاء الإعلاميين والمثقفين مصداقية محلية وخارجية ودوراً حقيقياً في الحياة السياسية.

هيكل، مهما كان تجنّيه على الدور الخارجي الأردني وعلى النظام هنا، لم يأت من فراغ ولم يُروَ بمياه بعلية! لقد مُكّن من مخازن معلومات وأسرار، وأتيحت له موارد هائلة، كان قريباً من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وعرف عن قرب أسرار السياسة الداخلية والخارجية وكواليس العلاقات الدولية، ما جعل منه مخزناً للمعلومات، مع الكم الهائل من الوثائق التي يملكها.

الإعلامي والخبير السياسي الناجح لا يأتي من فراغ، فهناك شروط موضوعية وذاتية لصناعته، وإذا تساءلنا عن غياب إعلاميين أردنيين كبار يحظون بالقبول والاحترام والمكانة ليس في الأردن فحسب، بل في الدول الأخرى فالجواب أننا لا بد أن نوفر البيئة المناسبة لهم أولا، كي يكونوا مصدرا من مصادر قوة الدولة، في وقت بات فيه الإعلام أخطر من الجيوش والأسلحة الفتاكة.

[email protected]