لماذا تولِّد مسألة اللحم الحلال الكثير من الجدل في أوروبا؟

سيدة محجبة أمام ملحمة للحم الحلال في ضاحية سانت دينيس في العاصمة الفرنسية، باريس -(المصدر)
سيدة محجبة أمام ملحمة للحم الحلال في ضاحية سانت دينيس في العاصمة الفرنسية، باريس -(المصدر)

جيمس ماكاولي* - (الواشنطن بوست) 9/10/2018

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

حتى تُصنف اللحوم على أنها حلال -أي مسموحاً بتناولها في الإسلام، بالمعنى الفضفاض- فإنه يجب ذبح الحيوان المعنيّ بطريقة معينة: بإحداث شق حاد في مقدمة الحَلق، مع النطق بعبارة المباركة، البسملة. وتشبه هذه المواصفات ممارسات ذبح الكوشير التي تتوافق مع القانون الغذائي اليهودي، على الرغم من أن للديانتين قواعد مختلفة حول أجزاء الحيوان التي يمكن تناولها.اضافة اعلان
*   *   *   *
ليس ليلاس، فرنسا - من الصعب أن يكون هناك مشهد أكثر فرنسية من رؤية الأزواج المسنين والآباء الصغار وهم يتنافسون على تناول قطع مختارة من شرائح لحم العجل في صباح عطلة نهاية الأسبوع. لكن شعبية "لي جومو" ("التوأمان" بالعربية)، محل بيع اللحوم المحترف في هذه الضاحية بباريس، تشكل هي الأخرى شيئاً فذاً ومتفرداً.
جميع اللحوم التي تُباع هنا في هذا المحل -من لحم البيسون، إلى البودان بلان، إلى لحم بقر الواغيو- هي "حلال". وقد تمكّن الأخوان الشابان التوأمان البالغان من العمر 28 عاماً اللذان يديران المحل، من جذب زبائن متنوعين والتمتع بالإشادة من النقاد، في لحظة تشهد مقاومة شديدة للحوم الحلال في أوروبا الغربية.
في الآونة الأخيرة، اقترحت حكومة إقليمية في النمسا أن على الأشخاص الذين يشترون اللحوم الحلال أو الكوشير أن يسجلوا أسماءهم لدى السلطات. وتكرر الحديث عن "مخاوف" دورية في بريطانيا من لحوم الحلال التي يمكن أن تُباع للمستهلكين من دون وجود دمغة أو ماركة عليها. وإلى أن قامت محكمة دستورية بنقضه، فرضت بولندا حظراً على الذبح الحلال والكوشير. كما يتضمن برنامج حزب بديل لألمانيا اليميني المتطرف مادة مماثلة عن اللحم الحلال.
كان الجدل حول هذه المسألة مدفوعاً في بعض الحالات من نشطاء حقوق الحيوان. وفي حالات أخرى، يتركز النقاش حول النوعية المتصوّرة للحوم. ولكن، كثيراً ما تكمن خلف الجدل كله تلك الأسئلة الأساسية المتعلقة بالهوية والانتماء.
حتى تُصنف اللحوم على أنها حلال -أي مسموحاً بتناولها في الإسلام، بالمعنى الفضفاض- فإنه يجب ذبح الحيوان المعنيّ بطريقة معينة: بإحداث شق حاد في مقدمة الحَلق، مع النطق بعبارة المباركة، البسملة.
وتشبه هذه المواصفات ممارسات ذبح الكوشير التي تتوافق مع القانون الغذائي اليهودي، على الرغم من أن للديانتين قواعد مختلفة حول أجزاء الحيوان التي يمكن أكلها.
تتمحور معارك جماعات حقوق الحيوان حول ما إذا كان الذبح حسب شروط الحلال أكثر أو أقل إنسانية من الممارسات الأخرى.
وفي أوروبا، كانت هناك حركة -منصوص عليها في قانون الاتحاد الأوروبي- والتي تشترط صعق الحيوانات قبل أن يتم قتلها، حتى تكون غير واعية ولا تشعر بالألم أو الضيق. ومع ذلك، تنص المادة على أنه يمكن منح استثناءات للممارسة الدينية. ويقول المنتقدون إن الذبح الحلال يتسبب بمعاناة غير ضرورية للحيوان وقت الوفاة.
وفي المقابل، يلاحظ المدافعون أن العديد من الحيوانات المذبوحة وفقاً للممارسات الحلال في أوروبا -بما في ذلك أكثر من 84 في المائة من الذبح الحلال في بريطانيا- تكون في الحقيقة قد صُعِقت مسبقاً، وهو ما يُعد مقبولاً على نطاق واسع إذا تم بطريقة تمكن معها إعادة الحيوان إلى الوعي الطبيعي ولا يكون قد نفَق. (على النقيض من ذلك، يحظر ذبح الكوشير صعق الحيوان).
كما تولي التقاليد الإسلامية اهتماماً خاصاً برفاهة الحيوانات -وليس فقط في لحظة الموت، وإنما في جميع مراحل الحياة. وحسب هذه التقاليد، لا يجب أن توضع الحيوانات في أقفاص أو تتعرض للإساءة. كما يجب أن لا يعاني أي حيوان من محنة رؤية حيوان آخر وهو يُقتل. ويجب أن يكون السكين المستخدم للذبح حاداً بقدر الإمكان، مع مراعاة أن إحداث قطع سريع ودقيق يقلل الألم إلى الحد الأدنى.
بالنسبة لبعض المستهلكين المسلمين، تؤشر المنتجات الحلال على إنتاج أخلاقي قد لا تكون اللحوم الأخرى قد خضعت له. ويقول بوغاك إيرجين، المؤرخ في جامعة فيرمونت، والمؤلف المشارك لكتاب "الطعام الحلال: تأريخ": "من المفهوم أن لديهم (المسلمون) توجهات معينة"، ويضيف: "إنه مصدر راحة للمسلم أن يرى نوعاً من تغليف الحلال على اللحم الذي يتناوله".
لكن هذه الراحة قد تكون في بعض الأحيان في غير محلها. ففي فرنسا، على سبيل المثال، توجد العديد من الجهات التي تصادق على الحلال وتشهد بمطابقته، والتي تتقيد كل منها بممارساتها ومعاييرها الخاصة، على الرغم من أنها تعتمد جميعها على مصادر دينية. ويقول ياسر اللواتي، وهو منظّم في المجتمع الإسلامي: "يستطيع أي مراقب أن يدخل السوق. نحن لا نعرف كيف يحددون معاييرهم؛ الأمر غير واضح حتى للمستهلكين أنفسهم".
ومع نمو السوق العالمية للحوم الحلال، تحوَّل عدد من المنتجين إلى تربية المواشي بطريقة المصانع. وكشفت مقاطع فيديو سرية عن ممارسات سيئة في بعض مسالخ الحلال.
لكن المدافعين عن اللحوم الحلال يقولون إن هذه الحالات تشير إلى مشاكل متعلقة بالتنظيم داخل الصناعة أكثر من كونها مسائل مقتصرة على اللحوم الحلال، ويلاحظون أن نشطاء حقوق الحيوان يبدون متشككين بشكل مبالغ فيه نوعاً ما في تركيزهم على الحلال.
يقول فتيح الله عثماني، العضو المنتدب لمؤسسة "أ. في. أس"، وهي أكبر جهة معتمدة للمصادقة على السلع الحلال في فرنسا، في مقابلة أجريت معه مؤخراً: "إنهم (ناشطو حقوق الحيوان) بحاجة إلى تحقيق بعض الانتصارات، وأسهل طريقة للحصول عليها هي التركيز على الأهداف السهلة، أي الأهداف الهامشية من حيث الحجم. بل إن (اللحوم الحلال) بالإضافة إلى ذلك هي هدف أكثر إثارة للاهتمام، حيث يُحتمل أن يحظى أي شيء متعلق بالإسلام باهتمام سياسي وإعلامي أكبر".
وهناك خط آخر لمقاومة اللحوم الحلال، والذي يتعلق بجودة المنتج. وعلى الرغم من أن هناك القليل في طريقة الذبح من الذي يجب أن يؤثر في المذاق، فإن هناك انطباعاً في بعض الأوساط بأن المنتجات الحلال هي أقل شأناً -من نوع الطعام الذي قد تحصل عليه من عربة الشاورما في الشارع، في مقابل مطعم جيد. وفي فرنسا، يعتبر البعض أن الإصرار على استهلاك اللحوم الحلال هو بمثابة رفض للتقاليد الحرفية المحلية التي يعود تاريخها إلى قرون، والتي ساعدت على ترسيخ تفوق الأمة في مجال المذاق. وقد زعمت بعض التقارير أن سوق الحلال يشبه بيع التخليص، الذي يعرض "حيوانات مسنّة، وخاصة الأغنام، بعد نفاد وقت فائدتها"، و"الحيوانات التي تستبعدها خصائصها الجسدية من قنوات التسويق القياسية".
هذه هي الأساطير التي كان على الأخوين التوأمين اللذين يديران ملحمة "لي جومو" أن يتصديا لها.
يقول سليم اللومي، الذي يعمل في ملحمة "لي جومو": "أنا مسلم. وأنا عربي. لكنني أقوم أيضاً بإنتاج منتجات ذات جودة عالية"، مشيراً إلى أن المحل ينتج نفس النوع من لحوم الشيّ وشرائح لحوم العجل التي يحبها الكثير من العملاء الفرنسيين. ويضيف: "إننا حلال 100 %، لكننا حقاً حِرفيون، ونعمل ضمن التقليد الفرنسي".
ولكن، ربما كان الأهم من ذلك كله أن اللحم الحلال شكل مصدراً للجدل في أوروبا الغربية، لأن هذه التسمية بالنسبة للبعض مرادفة للتمييز الذاتي والانفصال الثقافي و"الأسلمة". وهذا هو واقع الحال بشكل خاص في فرنسا، المجتمع العلماني القوي؛ حيث غالباً ما يُنظَر إلى القيود على الغذاء التي تأتي من الإملاءات الدينية على أنها تقوض الروابط التي تربط بين جميع المواطنين.
وقد عزز حكيم القروي، وهو مستشار للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومؤيد لمزيد من الاستيعاب والإدماج، هذا الرأي، وقال إن تناول المنتجات الحلال ليس مطلباً دينياً بقدر ما هو "علامة اجتماعية" وموشر على "اختراقات السلوكيات الإسلامية". كما أنه يشير كذلك إلى أن الجماعات الإسلامية تكسب أموالاً كبيرة من بيع اللحوم الحلال والمصادقة عليها، ويقترح أن تقوم فرنسا بـ"إدارة المسألة" بدلاً عنهم.
من بين أكثر المواضيع المتعلقة باللحم الحلال تفجراً كافتيريات المدارس العامة، وما إذا كانت القيم الجمهورية الفرنسية تسمح للطلاب المسلمين واليهود الملتزمين دينياً بتخطي عروض لحم الخنزير الأسبوعية لصالح تناول "وجبات بديلة".
على جانب اليمين من الطيف السياسي، كان الجواب "لا" مدوية. وفي هذا العام، قام جوليان سانشيز، عمدة مدينة بوكاير اليميني المتطرف في جنوب فرنسا، بحظر تقديم بدائل لحم الخنزير في المدارس المحلية. وقال سانشيز لصحيفة "الواشنطن بوست" في كانون الثاني (يناير): "كان قراري هو أن الجمهورية هي التي يجب أن تفوز، وأن الجمهورية هي التي لها الأولوية في فرنسا وليس الدين".
كما أطلقت عمدة من يمين الوسط، هي نيكول جويتا، في ضاحية كولومبس في باريس حملة عنيفة ضد مؤسسات الحلال، وأصرت على أنه يجب على الأعمال والشركات أن تلبي احتياجات جميع العملاء وليس قلة مختارة فقط. وتم إجبار أحد محال البقالة الصغيرة التي لا تبيع لحم الخنزير أو الكحول على الإغلاق.
وقد نجح مطعم بيت اللحوم الحلال، روديزيو برازيل، في مقاومة مطالبة العمدة بالشروع في تقديم المشروبات الكحولية مع الطعام -ولكن تم مراراً وتكراراً رفض منحه تصريحاً بافتتاح شرفة خارجية مربحة، وفقاً لما يقوله مالكه.
ويقول محمد بوشريت، 36 سنة: "لماذا تريدون مني أن أقدم الكحول في هذه المؤسسة؟ إذا قمتُ باستئجار شقة، فسيكون الأمر مماثلاً بالضبط لمطالبتي بأن أحتفظ بالجبن في ثلاجتي عندما لا أحب الجبن".
بالنسبة لجزاري اللحوم الحلال -وأبعد في سلسلة الإمداد أصحاب المطاعم مثل بوشريت- فإن مسألة العمل باللحوم الحلال -حتى إذا كان ثمة مشكلة من الأساس- بالكاد تتعلق بالهوية. في المجتمعات التي تضم عدداً كبيراً من المسلمين، تكون المسألة مسألة حسابات اقتصادية بحتة.
في ضاحية كولومبس، كما يقول بوشريت، يشتري ما يقرب من 70 في المائة من المجتمع اللحم الحلال. ويضيف: "هناك طلب قوي للغاية. وبصفتي رجل أعمال، لماذا أفعل شيئاً معاكساً لوجهة السوق؟".
إذا كان اللحم الحلال يمثل، بالنسبة للبعض، مثالاً على فشل استيعاب وإدماج المسلمين، فإنه ينطوي أيضاً على إمكانية تحقيق تكامل أكبر، من خلال المنتجات المتوفرة للجميع.
تقول فيبي أرمانيوس، المؤلفة الأخرى المشاركة في كتاب "الطعام الحلال: تأريخ"، والمؤرخة في كلية ميدلبري، إنه عندما يتم تسويقه باعتباره منتجاً "نافعاً وصحياً وأخلاقياً ومغذياً، فإنه يمكن أن يكون للحم الحلال معنى يتجاوز المجتمع الإسلامي".
ويقول اللومي: "بالنسبة لنا، فإن ما يهُم هو الجودة. نحن منفتحون على الجميع وبابنا مفتوح للجميع".

*مراسل صحيفة "الواشنطن بوست" في باريس. حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ الفرنسي من جامعة أكسفورد، حيث كان باحثا في مارشال.
*نشر هذا التقرير تحت عنوان: Why halal meat generates so much controversy in Europe