لماذا لن تنشب حرب بين الولايات المتحدة وإيران؟

جيمس هولمز* – (ذا ناشيونال إنترست) 4/1/2020
ترجمة: علاء الدين أبو زينة

اضافة اعلان

قد تشهد الأسابيع والأشهر القادمة حرباً غير نظامية تخاض بعزم متجدد من خلال أساليب شن الحرب غير التقليدية هذه. ومن المشكوك فيه أن تنطلق طهران إلى شن عمليات تقليدية، بحيث تتجه إلى أرض تعرف أن أميركا تهيمن عليها. وسوف يبرر إطلاق أعمال عسكرية انتقامية إيرانية واسعة النطاق أعمالاً عسكرية أميركية انتقامية ستكون كبيرة على الأرجح، والتي ستفوق العمليات الإيرانية من حيث القوة النارية والشراسة. ولا شك في أن آيات الله الذين يشرفون على الجمهورية الإسلامية يشعرون بالقلق من أن ينتهي بهم المطاف وهم على النهاية الخاسرة لمثل هذا الصدام. هكذا قد يفكرون، آخذين في اعتبارهم قسوة التجربة.

  • * *
    هل ستطلق طهران وواشنطن كلاب الحرب في أعقاب عملية الاغتيال الجوية الأسبوع الماضي التي أودت بحياة قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإسلامي الإيراني؟ يمكن أن يُغفَر لك تفكيرك بمثل ذلك، بالنظر إلى التقديرات الساخنة التي أعقبت نبأ غارة الطائرات من دون طيار خارج بغداد. وعلى سبيل المثال، رأى أحد المعلقين البارزين، هو ريتشارد هاس من مجلس العلاقات الخارجية، أن "منطقة الشرق الأوسط (وربما العالم) سيكونان ساحة المعركة".
    اعتبروني متشككاً. لكن سيناريو نهاية العالم هذا ليس وشيكاً.
    لا شك في أن ريتشارد هاس محق بالمعنى المحدود لكون العمليات العسكرية غير التقليدية تمتد الآن على كامل رقعة العالم. فالإرهابيون متعطشون إلى ضرب الأعداء القريبين والبعيدين على حد سواء، أملاً في إضعاف إرادتهم للقتال. وهم لا يحترمون الحدود الوطنية الآن، ولم يحترموها في أي وقت من الأوقات. كما أن الحدود في عالم الإنترنت الافتراضي غامضة بنفس المقدار، إذا أردنا تسمية ساحة أخرى للمعركة لا توجد فيها جبهات قتال محددة. وقد خاضت الولايات المتحدة وإيران قتالاً عبر الإنترنت لمدة عقد أو أكثر، والذي يعود تاريخه إلى هجوم دودة "ستوكسنت" Stuxnetعلى المجمع النووي الإيراني في العام 2010.
    قد تشهد الأسابيع والأشهر القادمة حرباً غير نظامية تخاض بعزم متجدد من خلال أساليب شن الحرب غير التقليدية هذه. ومن المشكوك فيه أن تنطلق طهران إلى شن عمليات تقليدية، بحيث تتجه إلى أرض تعرف أن أميركا تهيمن عليها. وسوف يبرر إطلاق أعمال عسكرية انتقامية إيرانية واسعة النطاق أعمالاً عسكرية أميركية انتقامية ستكون كبيرة على الأرجح، والتي ستفوق العمليات الإيرانية من حيث القوة النارية والشراسة. ولا شك في أن آيات الله الذين يشرفون على الجمهورية الإسلامية يشعرون بالقلق من أن ينتهي بهم المطاف وهم على النهاية الخاسرة لمثل هذا الصدام. هكذا قد يفكرون، آخذين في اعتبارهم قسوة التجربة.
    وهكذا، فإن التوقعات هي قدوم المزيد من الشيء نفسه. وهو بعيد كل البعد عن النبوءات المحمومة عن اندلاع حرب عالمية ثالثة التي يجري بثها منذ ذهاب سليماني إلى الرفيق الأعلى. وحتى نفهم معضلة طهران، دعونا نسأل زميلًا يعرف شيئاً أو اثنين عن الطموحات الفارسية. (تظل الإمبراطورية الفارسية قبل الإسلام، التي سادت في الشرق الأوسط وشكلت تهديداً لأوروبا، هي حجر الزاوية للنجاح الجيوسياسي -حتى بالنسبة لإيران الإسلامية).
    وثّق المؤرخ الأثيني ثوسيديديس Thucydides الحرب البيلوبونية، تلك الدوامة التي اجتاحت العالم اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد. وكانت بلاد فارس لاعباً رئيساً في تلك المنافسة. بل إنها ساعدت، في واقع الأمر، في تحديد نهاية اللعبة عندما قام "الملك العظيم" بتزويد خصم إسبارطة، أثينا، بالموارد اللازمة لبناء نفسها كقوة بحرية قادرة على هزيمة البحرية الأثينية المتخلفة في البحر. لكن ثوسيديديس يسجل أيضاً تأملاته في الطبيعة البشرية عند العديد من المنعطفات في تأريخه، مستخلصاً منها ملاحظات من مستوى عالمي. وفي إحدى المراحل، على سبيل المثال، يجعل السفراء الأثينيين يفترضون أن هناك ثلاثة من المحركات الرئيسة التي تدفع التصرفات البشرية، هي "الخوف، والشرف، والفائدة". ويبدو أن هؤلاء السفراء كانوا يتحدثون بلسان والد التاريخ.
    الخوف، والشرف، والفائدة. ثمة القليل من الأماكن التي يمكن أن تكون أفضل للشروع في تفكيك الأحجية حول السبب في أن الأفراد والمجتمعات يفعلون ما يفعلونه، ولإعطاء لمحة عما يجب أن نفعله. كيف تنطبق فرضية ثوسيديديس على خصومة ما-بعد-سليماني بين الولايات المتحدة وإيران؟ حسناً، يضع ذبح قائد قوة القدس الكرة في ملعب الجمهورية الإسلامية. يجب على الملالي أن يقوموا بالرد على الضربة بطريقة ما. وسوف يعني التباطؤ والتقاعس جعل أنفسهم يبدون ضعفاء وغير فعالين في عيون المنطقة والإيرانيين العاديين.
    وفي العجز يكمن الخطر. وقد أصبحت هذه الحقيقة مضاعفة الآن، بعد أن هزت الاحتجاجات الشعبية أجزاء من إيران في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وقد كلفت الحملة القمعية التي تلت ذلك المئات من الإيرانيين أرواحهم -وكشفت عن مدى عمق الاستياء المحلي من النظام الديني. وما مِن مستبدٍ يستمتع بالضعف، خاصةً -وأقل من أي أحد آخر- أوتوقراطي يتعرض حكمه للضغط من الداخل. إن عرضاً للقوة والصمود سيكون شيئاً ضرورياً لتخويف المعارضين المحليين.
    لكن الخوف شيء أشبه بهوائي متعدد الاتجاهات ومتعدد المجالات بالنسبة للإيرانيين. فالتهديدات الخارجية وفيرة. والإيرانيون معتادون تماماً على التطويق الجغرافي، على سبيل المثال. إنهم ينظرون إلى بلادهم باعتبارها مركز الثقل الشرعي الصحيح للنفوذ في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن القوات الأميركية أو حلفاءها يحاصرون ويقيدون الجمهورية الإسلامية من جميع جهات البوصلة، مع الاستثناء الجزئي للربع الشمالي الشرقي، الذي يشمل "ستانات" آسيا الوسطى، وروسيا من ورائها.
    انظر إلى خريطتك. تحتل البحرية الأميركية وتسيطر على الجناح البحري الغربي، مدعومة بسلاح الجو الأميركي. ويطوق حلفاء أميركا العرب في الخليج الشواطئ الغربية للخليج الفارسي. وتتواجد القوات الأميركية في العراق إلى الشمال الغربي، حيث سقط سليماني، وفي أفغانستان إلى الشرق. وحتى باكستان، في الجنوب الشرقي، هي حليف للأميركيين بموجب معاهدة، وإن كان حليفاً غير مريح. وهذه كلها تشكل محيطاً منيع عصياً على الاختراق. وتتمدد مجسّات النفوذ الأميركي وتتشابك حول حدود الجمهورية الإسلامية. ويبدو الخروج من هذا الحصار دافعاً طبيعياً للدبلوماسية والإستراتيجية العسكرية الإيرانية.
    وبعد. مهما كانت طموحاتها الجيوسياسية محمومة ومتحمسة، فإن القيادة الإيرانية ستكره اتخاذ إجراءات تتجاوز التفجيرات المتقطعة، ودعم المسلحين في أماكن أخرى في المنطقة، والإدانات الطقوسية لـ"الشيطان الأكبر" التي كانت أساس السياسة الإيرانية الخارجية منذ أربعين عاماً حتى الآن. ويفهم القادة الإيرانيون القوى المتجمعة ضدهم. وسيكون بذل جهود جادة لإحداث اختراق سابقاً لأوانه إلا –وحتى- يستكملون مساعيهم للحصول على أسلحة ذرية. وقد تشجعهم القدرة على التهديد بالدمار النووي على المحاولة -لكن ذلك يبقى شيئاً للمستقبل.
    بعد ذلك، ثمة مسألة الشرف. إن الحرب غير النظامية غير حاسمة في حد ذاتها، لكنها يمكن أن توفر عائدات هائلة من استثمار متواضع في الموارد والجهد. أما وقد أقاموا شرعيتهم السياسية بتعليقها على الشيطان الكبير وأعدائه في الشرق الأوسط، فإن على آيات الله أن يحققوا نتائج تدريجية منتظمة. وتشكل الهجمات المباشرة على القوات الأميركية شيئاً جيداً لنيل الإعجاب؛ وكذلك الصور التي تُظهر مقاتلي الحرس الثوري البحري وهم يتعقبون قوات المهام التابعة للبحرية الأميركية؛ وكذلك تفعل الهجمات على البنية التحتية الاقتصادية الحيوية لدى حلفاء أميركا مثل المملكة العربية السعودية. وتنقل العناوين الرئيسة صورة القوة الفحولية وهي قيد الحركة.
    دافع الشرف، إذن، يندمج مع الخوف. ويخشى الإيرانيون أن يُحرموا من الشرف الذي يعتبرونه مستحقاً لهم كمهيمن طبيعي على منطقة الخليج والعالم الإسلامي.
    وأخيراً، الفائدة. يجب أن يكون إلحاق الأذى كافياً لإيران حتى تتمكن من جمع المواد اللازمة التي تستطيع بها أن تجعل نفسها مهيمناً. ومن المدهش أن ثوسيديديس يُدرج المكاسب المادية أخيرة بين القوى التي تحفز البشر. فبعد كل شيء، يدرجها أخصائيو السياسة الخارجية أولاً. والفائدة قابلة للقياس الكمي، ويبدو أنها تدخل مباشرة في تغذية حسابات التكلفة والمكاسب والمخاطر. إنها تجعل فن الحكم وصناعة الدولة يبدو عقلانياً!
    لا توجد طريقة للمعرفة اليقينية بعد ألفيّتين الآن، ولكن يبدو من المرجح أن الحكيم اليوناني القديم كان يعني اختزال مثل هذه التجاوزات في العقلانية. وبالتحديد، اعتبر أن الطبيعة البشرية تتعلق بما هو أكثر من مجرد أشياء يمكننا أن نحصيها، مثل الإنتاج الاقتصادي أو جيش ميداني كبير. بالنسبة لثوسيديديس، يحتل حساب التكلفة/ المنفعة مقعداً خلفياً بالنسبة للمشاعر غير العقلانية القاطعة -بعضها مظلم، مثل الغضب والحقد، والبعض الآخر مشرق- والتي تدفعنا وتحركنا جميعاً.
    وفي الحقيقة، بالنسبة للإيرانيين، تشكل المنفعة المادية الطريق إلى تجديد حيوية الشرف الوطني بينما يتم كبح جماح الخوف وإبقائه بعيداً. وسيكون من شأن كسر الحصار الاقتصادي المتجسد، على سبيل المثال، في استراتيجية "الضغط الأقصى" لإدارة ترامب، أن يسمح لطهران بإعادة إحياء قطاع النفط والغاز المحتضر في البلاد. وسيكون من شأن تجدد تجارة التصدير أن يوفر الثروة، والتي يمكن أن يذهب البعض منها إلى وتجهيزات القوة العظمى مثل قوات بحرية وجوية عالية التقنية.
    في المقابل، يمكن للزعماء الإيرانيين دعم دبلوماسية أكثر طموحًا بالحديد. سوف يتمتعون بخيار الخروج عن طرقهم غير التقليدية والمثيرة للمشاكل بوضوح، والتنافس من خلال أساليب أكثر تقليدية. أو، الأكثر احتمالاً، أنهم سيستخدمون وسائل غير تقليدية كعامل مساعد في المنافسة الاستراتيجية التقليدية. وباختصار، فإن المكاسب المادية لا تفي بالاحتياجات والرغبات الاقتصادية فحسب، وإنما تخدم تضخم القوة العسكرية أيضاً. وهي تلبي، بفعلها ذلك، الأشواق غير المادية للسمعة وقدرة القرار الجيوسياسي.
    وماذا عن الجانب الأميركي؟ كرِّر هذه العملية فحسب. مرِّر شعاعات سياسة الولايات المتحدة واستراتيجيتها من خلال منشور ثوسيديدس من الخوف والشرف والفائدة، وانظُر في الكيفية التي ربما تتقاطع وتتفاعل بها الدوافع الإيرانية والأميركية، وشاهد ماهية الضوء الذي سيلقيه هذا التقييم على المستقبل. تقديري: ربما ستأتي الحرب العالمية الثالثة في يوم من الأيام -لكن اليوم ليس هو ذلك اليوم.

*أستاذ كرسي ج. س. ويلي للاستراتيجية البحرية في كلية الحرب البحرية، ومؤلف كتاب "تصور قوة البحر الصينية"، ومؤلف "دليل موجز إلى الاستراتيجية البحرية"، الذي نشر في الشهر الماضي.

*نشر هذا المقال تحت عنوان:Why a U.S.-Iran War Isn't Going To Happen