"لماذا نتطرّف؟!"

في أغلب الأحيان، تتحول ندواتنا ومؤتمراتنا إلى احتفالات ونقاشات شكلية أو معلّبة للقضايا والمشكلات، بدلاً من تقديم قراءات عميقة بحثية تسقط وراء الظواهر إلى دراسة الإشكاليات والشروط والأسباب الجوهرية التي تؤدي إليها. وربما هذا، تحديداً، ما تتسم به أغلب الندوات والنقاشات التي تتناول موضوع "العنف باسم الدين" في العالمين العربي والإسلامي عموماً، وفي الأردن خصوصاً!اضافة اعلان
لم تخرج أغلب هذه الفعاليات عن منطق الإدانة السطحي للاتجاهات الإسلامية الراديكالية وأعمال العنف. وربما نذكر، جميعاً، حمّى المؤتمرات بعد تفجيرات عمان 2005، والقصائد والأشعار والخطابات العرمرمية ضد التطرف والإرهاب، ثم نجد اليوم آلافاً من شبابنا في أحضان هذا الفكر، وانضم عدد كبير منهم إمّا إلى "داعش" أو إلى "جبهة النصرة"!
إذا لم نخرج من هذه العقلية السطحية الاختزالية الاستعراضية، فنعيد قراءة هذا الفكر ونضعه في سياقه الموضوعي والواقعي، ونصوغ الأسئلة الجوهرية حوله، فإنّ ما نراه من حالة "تطريف" للمنطقة ستجتاح أعداداً أخرى من شبابنا في ظل الفراغات السياسية والروحية، وتحت وطأة الشعور بالظلم وخيبة الأمل والعجز وجرح الكرامة النازف منذ عقود!
إلى الآن، لم نبدأ من السطر الصحيح في قراءة صعود الفكر المتطرف، والمتمثّل في أنّه لم يأتِ من فراغ، بل هو ابن بارّ لبيئة مناسبة تماماً له. فالأحداث الإقليمية (في سورية ومصر) تقدّم الخدمات الجليلة لدعاة هذا الفكر، وتسهّل لهم مهمة التجنيد، وتختصر عليهم عملية الدعاية السياسية؛ ليس فقط في مناطق الصراعات والتوترات، بل وحتى في المجتمعات العربية الأخرى التي يراقب شبابها ما يجري حولهم ويفكّرون في مستقبلهم وفي الخروج من حالة الضباب الكثيف الذي يلفّ مستقبلهم!
يذكّرني ذلك برواية الكاتب الأميركي ستيفن كينغز (والتي أُنتِج لاحقاً فيلم أميركي مبني عليها)، وهي "السديم" (The Mist). في أحد مشاهد الفيلم (الذي يتحدث عن أناس عالقين في متجر كبير، بعد أن لفّ الضباب المنطقة بأسرها، والوحوش تخرج عليهم من الضباب وتحاول اقتحام المتجر؛ وتدور أحداث الرواية-الفيلم حول المشاعر والأفكار المتناقضة)، يطرح أحد أبطال الفيلم فكرة المغامرة بالخروج من المتجر، بالرغم من المخاطرة الكبيرة. وبعد أن يذكر عدداً من الحجج لتأييد موقفه، يتطرق إلى السبب الأهم برأيه، ويتعلق بإحدى السيدات التي أصبحت تعتقد أنّها "وسيطة روحية" مع الله، وأخذت تقنع "العالقين" بأنّ ما يحدث هو عذاب ووعيد. ثم تتحدث عن حلول عدمية مسكونة بحالة اليأس والإحباط التي تسيطر على الجميع. فصاحب فكرة الخروج يشير إلى أنّه كلما ازدادت حالة اليأس والإحباط، فإنّ هذه السيدة ستتمكن من "تجنيد" عدد كبير ممن في المتجر خلف آرائها المتطرفة. إذ طالما أنّ الناس فقدوا الأمل وتراجعت القوانين، فإنّهم سيستسلمون لهذا الخطاب "العدمي"!
هذا الحوار المختصر يلخّص بدرجة كبيرة أسباب انتشار التطرف والعنف، ويختزلها بدقة بوصفها نتائج منطقية وموضوعية للحالة الواقعية الموضوعية. وإذا نظرنا إلى ما يدور في المنطقة العربية اليوم من أحداث سياسية، وما يسود فيها من ظروف اجتماعية-اقتصادية؛ وعنوان ذلك كله فشل الدولة في بناء سياجات قانونية ومدنية، وتحقيق العدالة ومكافحة الفساد، وتخفيف حدّة الظروف الاقتصادية، ومواجهة التحديات الخارجية.. فكل هذه العوامل بمثابة الوقود الضروري للجماعات المتطرفة.
في الخلاصة، العنف الديني والفكر المتطرف فضلاً عن أنّهما لم يولدا في الفراغ، وفضلاً، ثانياً، عن أنّهما يتّسعان وينتشران في ظل الظروف الراهنة، فإنّهما ثالثاً لا ينفصلان عن الوصف العام للحالة العربية؛ فهناك انهيارات كبيرة وعنف بنيوي يتجذر، سواء ظهر عبر جماعات دينية أو عنف جامعي أو مجتمعي أو رمزي أو استقطاب سياسي، فالأمراض تنخر فينا نخراً!