لماذا ننافق؟

المنافق صفة نطلقها على  الشخص  الذي يظهر مشاعر وأحكاما تخالف ما يشعر به او يعتقده  فعلا، أو على من "يظهر خلاف ما يبطن" وذلك لإرضاء أصحاب السلطة أو المركز أو الجاه والنفوذ بغرض تحقيق مصلحة أو منفعة أو تجنب أذى أو تأثير غير مرغوب لديه. وقد اشتق الاصطلاح من النفق الذي تحفره بعض الحيوانات الصغيرة "كالفئران والارانب" في الارض وتترك له منفذين او اكثر  بحيث يتيح لها الاختباء في الوسط والهروب من الجهة المعاكسة لمصدر الخطر عند وقوعه.اضافة اعلان
لفترات طويلة كان النفاق صفة وضيعة ترتبط بالجبن وتتنافى مع خصال الفروسية والشجاعة والنبل وتفقد من يتسم بها الاحترام والتقدير وتقلل من شأنه بين الناس. وبالرغم من وجود هذه الفئة من الناس في معظم مراحل حياة المجتمعات البشرية الا ان القليلين منهم حققوا سمعة ومكانة تتجاوز حدود زمانهم ومكانهم. فقد لعبوا ادوارا هامشية حققت لهم الحماية والبقاء لكنها حرمتهم من الشهرة والقيادة والمجد الذي سعى له الانسان وما يزال.
بالرغم من لجوء غالبية الناس الى قدر معين من  التودد  لاصحاب المال والجاه والمكانة والشهرة الا ان الملاحظ تجاوز هذا السلوك للحدود المعقولة في العديد من المجتمعات التي يحكمها الطغاة المستبدون حيث تتحول  الغالبية العظمى من الناس الى منافقين بالفطرة فلا احد يجرؤ على قول  الحقيقة  وتتغير ملامح اللغة والخطاب الذي يستخدمه الناس في حياتهم اليومية ليصبح خطابا ناعما سلسا ارضائيا يصل الى درجة الاذلال والغاء الوجود امام اصحاب السلطة والنفوذ وربما امام من هم اقل شأنا ومكانة ليصبح الانبطاح سمة ثقافية يستدخلها الجميع في لغتهم ومزاجهم وتكتيكاتهم التكيفية وعلاقاتهم الاجتماعية.
في مثل هذه المجتمعات يتبارى الجميع في ابتداع صور لتمجيد عبقرية وفكر وحكمة ورصانة ومواهب من هم اعلى مكانة ونفوذا منهم. الكثير من الصفات  المستخدمة يجري استعارتها من الصفات التي نيطت بالآلهة ويسقط الناس حقوقهم في التفكير الجاد والتعبير الصادق والالتزام بقول الحق والنقد والتحليل الذي يحترم طبيعة العقل، فيتوقف التفكير ويتجمد العقل ويتحول الجميع للبحث عن الرضا والقبول وتجنب الغضب والثار والانتقام.
اليوم لم يعد النفاق مثلبة في شخصية الافراد بعد ان اصبح الجميع مسكونين بهاجس المنفعة والفائدة الشخصية؛ ففي المجتمعات الفردية يسعى الجميع الى تحقيق النجاح والغاية تبرر الوسيلة والكل معني بدراسة الاشخاص الذين سيقابلهم ليتعرف على طباعهم ويرضي غرورهم ويقول ما يمكن أن يستميلهم، لكل ذلك نشأ علم العلاقات العامة والتسويق والتدريب على تقديم العروض المؤثرة الجاذبة وتجنب كل ما قد يغضب اصحاب النفوذ المالي والسياسي والاداري من صناع القرار.
في مجتمعاتنا الجميع يساير الجميع والبعض يردد عشر جمل او اكثر حفظها عبر مسيرة حياته يوزعها على المناسبات المختلفة، فتوصف النساء غير الجميلات بانهن اية في الجمال والرجال الاغبياء بانهم الاذكى بين من يمكن مصادفتهم والمدراء المتهورين بانهم الاكثر حنكة ورشادا.
المسايرة والنفاق ابرز ملامح الثقافة العربية يلجأ لها الجميع ولم تعد بحاجة الى تعليم فالكل يتقنها. مشكلة النفاق العلني المؤسسي والفردي انه يحرم المجتمع ومؤسساته من فرص التحديث والتطوير لانه يضع المؤسسات والافراد في حالة من النشوة المصطنعة بانجازات ونجاحات وهمية صنعها النفاق والمنافقين وتسللت الى وجدان وفكر المنافق لهم فاختلطت عليهم الاوهام بالحقائق.
المسايرة والنفاق امراض استشرت في مجتمعاتنا وولدت ثقافة الاستغابة والنميمة والاغتيال، فما لا تستطيع قوله في العلن يمكن قوله في الخفاء مستخدما المنفذ الاخر للنفق. لذا من الصعب لمجتمعاتنا التقدم دون ان تتعزز فيها حرية التعبير والنقد والتفكير والجهر في القول دون الخوف من العقوبة والمقاطعة والتضييق  والانتقام.
الديمقراطية ليست تشريعات وبيانات وصناديق ولجانا فحسب، بل هي ثقافة تنطوي على مساحات معقولة لحرية التفكير والقول والنقد والتعبير الذي يتيح للجميع الاشتراك في إدارة الحاضر وصياغة المستقبل ويحمي حقوق الجميع  في المشاركة والاستمتاع بانسانيتهم ومواطنتهم ومواهبهم.